• اترك أباك وأمّك واتبع زوجتك! هل يُعقل؟ القس د. رياض قسيس
اترك أباك وأمّك واتبع زوجتك! هل يُعقل؟ القس د. رياض قسيس

 لا شكّ أنّ قراءتك لهذا العنوان ذكّرتك بالآية المشهورة التّي كثيراً ما نقرأها في بطاقات الدّعوة للزواج ونسمعها عند حضورنا مراسيم الزواج في كنائسنا:

لِذَلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ ابَاهُ وَامَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَاتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً" (تكوين 2: 24).

لا يبدو أنّ التّرجمات العربيّة تختلف في ترجمة هذه الآية. فعلى سبيل المثال جاء في التّرجمة العربيّة المشتركة: "يترُكُ الرَّجُلُ أباهُ وأُمَّهُ ويتَّحِدُ با‏مرأتِهِ"، وفي ترجمة الإنجيل الشّريف: "يترُكُ الرَّجُلُ أباهُ وأُمَّهُ ويَقتَرِنُ با‏مرأتِهِ".

أعتقد أنّنا هنا أمام إشكالين لمحاولة فهم معنى هذه الآية فهماً صحيحاً. يتعلّق الاشكال الأوّل بفهم معنى "التّرك"، والاشكال الثّاني بفهم غاية وجود كلمة "لذلك" في بداية الآية وارتباطها بسياقها، أي ما سبقها من كلمات.   

"التّرك" في اللغة العربيّة يفيد معنى الانفصال أو الإهمال أو الانصراف، فهل يُعقل أنّ الله الذي أوصى بالوالدين كما في الوصيّة الأساس "أكرم أباك وأمّك" أن يأمر الرّجل المتزوج بترك أبيه وأمّه؟ 

حاول بعض المفسرين الناطقين باللغة الإنكليزيّة التّخفيف من وقع معنى "التّرك" فاقترحوا استبدال ترجمة كلمة "يترك" (leave) بالكلمة forsake بمعنى "يتخلّى"، ولهذا الرأي ما يبرره لأنّ الكلمة في لغتها الأصليّة قد تُرجمت في مواقع أخرى لتفيد معنى "التّخلّي" (تثنية 12: 19، 14: 27، 31: 8). [1]

ولكن بالرّغم من ذلك فإنّ مثل هذه المحاولة برأيي تزيد الأمر تعقيداً! فالتّخلّي يشير إلى الانقطاع عن أمر للانشغال بأمرٍ آخر، كما في قولنا "تخلّى خالد للبحث في قضية عادلة" أي انقطع عن أمور أخرى ليهتمّ بما هو أهمّ، أو قولنا "تخلّت سميرة عن قضيّة صديقتها سمر" أي تركت قضيّة سمر لمصيرها ولم تعد تعنيها، أو قولنا "أخلّ وسام بوعده" أي لم يف به. 

أمّا القدّيس أوغسطينوس فإنّه يرى في هذه الآية ارتباطاً مسيانيّاً فيقول:

إن كان المسيح يلتصق بكنيسته ليكون الاثنان جسدًا واحدًا، فبأي طريقة يترك أباه وأمه؟ لقد ترك أباه بمعني أنه "إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله، لكنه أخلي نفسه آخذًا صورة عبد" (في 2: 6) بهذا المعني ترك أباه لا بأن نسيه أو انفصل عنه وإنما بظهوره في شكل البشر... ولكن كيف ترك أمه؟ بتركه مجمع اليهود الذي وُلد منه حسب الجسد، ليلتصق بالكنيسة التي جمعها من كل الأمم. [2]

ولكن لا يوضّح لنا القدّيس أوغسطينوس النّاحية العمليّة لهذه الآية سوى قوله بأنّ التّرك لا يعني النّسيان أو الانفصال.

أمّا من ناحية النّصائح للحياة العمليّة، فيبدو أنّ الكثير من المشيرين يحاول اجتناب مفهوم "التّرك" بمعناه الواضح الذي أشرت إليه أعلاه ليصلوا إلى نتيجة تحرص على تحقيق "تسوية" ما بين متطلّبات الاهتمام بالوالدين وبين متطلّبات الحياة الزّوجيّة. إليك هذين المثالين:

إذا فشل أحد الزوجين في الترك والإلتصاق ينتج عن ذلك وجود مشاكل في الزواج. فإذا رفض أحد الزوجين أن يترك والديه بالفعل، ينتج عن ذلك الخلافات والتوتر. ولكن ترك الوالدين لا يعني تجاهلهما أو عدم قضاء وقت معهما. بل ترك الوالدين يعني إدراك أن الزواج خلق عائلة جديدة وأن هذه العائلة الجديدة يجب أن يكون لها الأولوية على العائلة القديمة. وإذا أهمل الزوجين الإلتصاق أحدهما بالآخر، تكون النتيجة غياب الحميمية والوحدة بينهما[3]

... أن هناك تركا أو انفصالاً عن الأبوين. وهذا الانفصال هو في الأساس في حيّز العاطفة والفكر، وقد يكون أحياناً انفصالاً جغرافياً أو جسدياً. غير أن هذا الترك أو الانفصال لا يعني نسيان الأهل أو عدم إكرامهم ومساندتهم بل هو تحرر واستقلال في المسؤولية الإدارة. فالعروسان وحدهما هما المسؤولان عن إدارة بيتهما الجديد، ومن الخطأ بمكان كبير أن يتدخل الأحماء والحموات في شؤونهما. فالانفصال ضروري ولو بدا صعباً ومصحوباً بالدموع في يوم العرس.[4] 

إنّني أرى بعض الحكمة في الكثير ممّا ورد في الاقتباسين أعلاه، ولكن هل حقّاً يعكسان تفسيراً صحيحاً لمعنى النّص في كتاب التّكوين؟ أم أنّهما يمثلان محاولة ذكيّة للجمع بين متضادين، بين "التّرك" و"الالتصاق"؟

إنّ جذر الفعل "يترك" في أصله العبري هو "ع- ز- ب" وترجمته بالكلمة "يترك" مبرّر لغويّاً، ولكن هل هذه هي التّرجمة الوحيدة المقبولة؟ [5]

لقد ورد هذا الفعل في مواضع عديدة من العهد القديم كما في خروج 23: 5 ونحميا 3: 8 و4: 2 (3: 34 وفق النّص المازوري)... وقد تمّت ترجمته بطرق مختلفة. ففي التّرجمة العربيّة المشتركة لما ورد في خروج 23: 5 نقرأ: "وإذا رأيتَ حمارَ مَنْ يُبغِضُكَ رازِحا تحتَ حِمْلِهِ، فلا تمتَنِـعْ عَن مُساعَدَتِهِ‌ ورَفْعِ الحِمْلِ معَهُ‌" ("إِذَا رَأَيْتَ حِمَارَ مُبْغِضِكَ وَاقِعًا تَحْتَ حِمْلِهِ وَعَدَلْتَ عَنْ حَلِّهِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ تَحُلَّ مَعَهُ." البستاني-فاندايك | "وإذا رأيت حمار مبغضك ساقطا تحت حمله، فكف عن تجنبه، بل أنهضه معه." التّرجمة اليسوعيّة). فالكلمة "مساعدته" هي من الجذر ذاته أي "ع- ز- ب"! أمّا في نحميا فقد ورد الجذر "ع- ز- ب" وتمّت ترجمته بالكلمة "رمّم": "وَبِجَانِبِهِمَا رَمَّمَ عُزِّيئِيلُ بْنُ حَرْهَايَا مِنَ الصَّيَّاغِينَ. وَبِجَانِبِهِ رَمَّمَ حَنَنْيَا مِنَ الْعَطَّارِينَ. وَتَرَكُوا أُورُشَلِيمَ إِلَى السُّورِ الْعَرِيضِ." إذن فالفعل "يترك" من الجذر "ع- ز- ب" يحمل معنى المساعدة، الدّعم، التّقوية، التّشديد... وبالتّالي ليس ما يمنع ترجمة الآية في تكوين 2: 24 هكذا: "لِذَلِكَ يدعم الرَّجُلُ ابَاهُ وَامَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَاتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً"، بمعنى أنّه ينبغي على الرّجل القيام بالأمرين معاً: الاهتمام بوالديه والالتصاق بزوجته، فلا تعارض بين الأمرين، ووجود الزّوجة لا يعني "التّخلّي" أو "الانفصال" أو "التّرك" للوالدين. وما يبرّر هذه التّرجمة وهذا التّفسير ثلاثة أمور.

أوّلاً، في القرن العشرين تمّ اكتشاف كتابات في أوغاريت وغيرها تفيد ورود الجذر "ع- ز- ب" بمعنى "المساعدة" أو "الدّعم"، الأمر الذي لم يكن متاحاً معرفته للمترجمين والمفسّرين قبل القرن العشرين.

 

ثانياً، من المستغرب جداً أن يوصي النّص أنّ على الرّجل وحده وليس المرأة (الزّوجة) القيام "بالتّرك"، فلو كان المُراد من الآية "الانفصال" الجغرافي والمعنوي عن الوالدين لكان بالأحرى الطلب من المرأة (الزّوجة) أيضاً القيام "بالتّرك"!

 

ثالثاً، في مجتمعات الشّرق الأدنى القديم وفي زمن كتابة كتاب التّكوين لم يكن يخطر ببال أيّ رجل متزوج "ترك" والديه وأهله وعشيرته، ولو فعل ذلك لاعتبر الأمر مرفوضاً بكل مقاييس ذلك العصر. فضلاً عن ذلك عندما يقصد أحد كتّاب العهد القديم الإشارة إلى "التّرك" الجغرافي فإنّه يتمّ استخدام تعبير "بيت أبيه" أو "بيت أبيها"، وليس "أبيه وأمّه". [6]

 

ختاماً لا بدّ من الإشارة إلى غاية وجود كلمة "لذلك" في بداية هذه الآية. ترد هذه الآية في نهاية هذا المقطع:

 

18وَقَالَ الرَّبُّ الإِلَهُ: «لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِيناً نَظِيرَهُ». 19وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ السَّمَاءِ فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا. 20فَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ. وَأَمَّا لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُعِيناً نَظِيرَهُ. 21فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلَهُ سُبَاتاً عَلَى آدَمَ فَنَامَ فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلَأَ مَكَانَهَا لَحْماً. 22وَبَنَى الرَّبُّ الإِلَهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ. 23فَقَالَ آدَمُ: «هَذِهِ الْآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هَذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ». 24لِذَلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً. (تكوين 2: 18- 24)

 

إنّ ورود هذه الآية مرتبط بما سبقها، فبعد أن دعا آدم الحيوانات والطيور بأسمائها، وبعد أن تمّت معالجة مشكلة "وحدة" آدم وعزلته بوجود حواء كأنّ كاتب كتاب التّكوين يقول لآدم (ولنا) على لسان الله تعالى: "بينما الحيوانات والطيور لا تراعي أهلها ولا تهتمّ بها بعد مرحلة قصيرة من ولادتها ونموها، الآن وبعد أن اكتملت حياتك بوجود حواء احرص على ألاّ تحذو حذو الطّيور والحيوانات، واعمل جاهداً على الاهتمام بوالديك والعناية بامرأتك في آنٍ معاً." لقد أوصت الشّريعة أنّ على الآباء تأمين زوجات لأبنائهم (تكوين 28: 2، 38: 2، قضاة 14: 2-3) وأنّه يتوجّب على كلّ ابن الاهتمام بوالديه (خروج 20: 12، تثنية 5: 16) والاهتمام بزوجته أيضاً في الوقت ذاته وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه تماماً.

 

القس رياض قسيس، دكتور في الفلسفة

المقال مهدى إلى شريكة الحبّ والحياة- ازدهار بمناسبة عيد زواجنا 39!

 


1) Wenham, Gordon J. Genesis. Waco, TX: Dallas, TX, 1987, pp. 70-71

2) https://www.drghaly.com/articles/display-media/html/12469، تمّت زيارة الموقع بتاريخ 13 آب (أغسطس) 2022.

3) https://www.gotquestions.org/Arabic/Arabic-leave-cleave.html، تمّت زيارة الموقع بتاريخ 19 آب (أغسطس) 2022.

4) https://www.kalimatalhayat.com/family/175-the-marriage/2912-page02.html، تمّت زيارة الموقع بتاريخ 10 آب (أغسطس) 2022.

5) إنّني مدين في هذا المقال للباحث Ziony Zevit في كتابه

What Really Happened in the Garden of Eden? (The Lewis Walpole Series in Eighteenth-Century Culture and History). Yale University Press. Kindle Edition, 2013, locs. 2895-3022.

6) Westermann, Claus. Genesis 1-11: A Commentary. Minneapolis: Augsburg Pub. House, 1984, pp. 233-234.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع