• حذارِ من الذات! مارتن كورش تمرس لولو

دعونا قبل أن ندخل في الموضوع، نعرف ما هو مصطلح الذات:

الذات: هي مجموعة من المشاعر والأحاسيس الموجودة في نفس كل شخص منذ ولادته، تنمو مع نموه نفسياً، جسدياً وعقلياً (فكرياً) ترتبط بالنفس إرتباطاً وثيقاً. تبدو واضحة في سلوك الفرد وتصرفاته غير الإرادية، مثل الإندفاع، المخاطرة، الإنكار المفاجئ، التهرب... وغيرها من التصرفات التي قد تبدو للعيان غير طبيعية في لحظة وقوعها. قد لا يقوى العقل على التحكم بها أحياناً! لذلك نجد الضمير قد إنبرى صمام أمان لها حارساً أياها من الـ(أنا)، محاولاً عدم زيغانها عن جادة الصواب. علماً أن خروج الذات عن حدها المعقول قد تؤدي إلى الحزن أو الكآبة أو اليأس إضافة إلى الندم.

لقد مرَّ بطرس بثلاثة مواقف لم يقو فيها على الثبات! ذلك بسبب إندفاعه على الرغم من أنه كان غيوراً ومحباً.

الموقف الأول: مرَّ الرب يسوع قبل الصلب بمرحلة صعبة عاشها وعاناها كإنسان، أراد من تلامذته أن يؤازره ويسهروا معه لكي يشاركوه حزنه (فَقَالَ لَهُمْ: نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ. اُمْكُثُوا ههُنَا وَاسْهَرُوا مَعِي.) "متى26: 38" لكنهم لم يقووا فأسلموا نفوسهم لسلطان النوم (فَقَالَ لِبُطْرُسَ: أَهكَذَا مَا قَدَرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟)"متى26: 40"

الموقف الثاني: السير على الماء. بسبب إندفاع بطرس وضع نفسه في موقف مستحيل التنفيذ؛ لن يقوى على تنفيذه في الكون كله سوى شخص واحد، له قدرة الهية أنه يسوع المسيح، لم يعرفه بطرس حينها عن قرب؛ أراد في هذا الموقف أن يثبت لأصدقائه صيادو الأسماك، أنه قادر على عمل المستحيل بقوته الشخصية، نسمعه يطلب من الرب (يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ، فَمُرْني أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ عَلَى الْمَاءِ.)"متى14: 28"، أن يسير على الماء كما يسير يسوع المسيح، معتقداً ومتوهماً أنه يقوى على صنع المعجزات كما فعل يسوع المسيح! موقف فيه رفع قدرته المحدودة وأراد أن يساويها بقدرة يسوع المسيح الغير محدودة، لم يكن عن قصد بل عن إندفاع، الذي بهذا الأخير وضع إيمانه جانباً وتمسك بغايةٍ فيها أراد أن يظهر بطلاً أمام رفاقه الصيادين. كانت النتيجة (وَلكِنْ لَمَّا رَأَى الرِّيحَ شَدِيدَةً خَافَ. وَإِذِ ابْتَدَأَ يَغْرَقُ، صَرَخَ قِائِلًا: يَا رَبُّ، نَجِّنِي!.) "متى14: 30" لقد ترك بطرس أحد أهم مقومات الثبات ألا وهو الإيمان! لقد نسي أن لا القوة الشخصية ولا الإندفاع يفيدان مع من يريد إتباع الرب يسوع. تصور بطرس أنه لو أظهر للرب قدرته وقوته الذاتية يعني أن الرب سيضمه إليه. بل لم يتذكر بطرس أن أبونا إبراهيم يوم سمع لصوت الرب (اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ.)"سفر التكوين12: 1" كان ذلك بالإيمان. مقاييس نضعها دوماً في حياتنا عند تعاملنا مع غيرنا، قد نكون في صياغتها على خطأ كبير فيه قد نخسر من أردناه لنا عوناً. نعم مع الرب لا أحد يخسره لأنه هو الذي بادر وأحبنا.

الموقف الثالث: إنكاره ليسوع. في هذا الموقف يحنث بطرس بوعده الذي قطعه ليسوع المسيح وأمام التلامذة (فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَدًا. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُني ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ! هكَذَا قَالَ أَيْضًا جَمِيعُ التَّلاَمِيذِ.) "متى26: 33 – 35" من خصاله التي عهدناها عنه في أنه شجاع ومندفع. كشفت دموعه الغزيرة مدى ندمه ندماً كبيراً على الذي فعله (فَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرًّا.) "متى26: 75" هي حقيقة كل متسرع بعمله أو بقراراته تجده الضمير فيه ينبري مؤنباً الـ(أنا) التي تسببت بالفشل والدليل هو الندم (فَلَمَّا رَأَى سِمْعَانُ بُطْرُسُ ذلِكَ خَرَّ عِنْدَ رُكْبَتَيْ يَسُوعَ قَائِلًا: اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ!.)"لوقا5: 8". تسرع بطرس فوقع في شراك الندم! لو كان قد تريث قليلاً لسمح للرب أن يُسرع إليه، كما أسرع ومدَّ يده وأنقذه من الغرق. ها هو المرنم (عدنان قحطان) يرنم بصوته الشجي ( يُسرع "الرب" في حينه  ينقذُ ويُنجي  يَسمع لصوتي دوماً  ويداه تُعزي.) مع كل ما فعله بطرس إلا أن الرب غفر له لأن الرب عرف معدنه، داخله، نيته و... كذلك يعرف مدى قدرة كل واحد منا، لذلك يُسرع ويدعمنا في حربنا مع الشيطان (فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ.)"أفسس6: 12".

نحن نعرف كان ولازال بمقدور الرب وبقوته الالوهية، أن يغير بطرس في تلك اللحظة التي فيها أنكره، إلى شخص شجاع لا ينكر ربه. لماذا لم يفعل الرب ذلك؟ من نظرة لاهوتية روحية، ممكن تعليل ذلك كما يلي:

  1. ترك الرب بطرس يدخل تجربة الخوف من صالبيه، الخوف الذي دفعه إلى أن يبادر وينكر معرفته بالرب (فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!)"مرقس14: 71" بينما الرب ينظر إليه كأنه بنظراته يُذكره بوعده (قَالَ لَهُ يَسُوعُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُني ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.)"متى26: 34". لو كان قد دعمه الرب روحياً وأزال كل مخاوفه عنه! أما كان سيصاب بطرس بالغرور أمام نفسه فيتعنجه ويتكبر فيخسر نفسه (يُقَاوِمُ اللهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً.)"يعقوب4: 6".
  2. لم يحن الوقت. لم يصلب يسوع بعد. لم يصعد إلى السماء، حتى يأذن للروح القدس بالمجيء (لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ.)"يوحنا16: 7". لم يستلم بطرس قوة الروح القدس، بل تأجل إلى يوم الخمسين (وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا.) "أعمال الرسل2: 3 و 4"".

نتائج الإعتماد على الذات: علمنا الرب أن ننكر ذواتنا. أن الإعتماد عليها نتائجها وخيمة منها على سبيل المثال في حالة الفشل:(تراجع، نكران، إختفاء) أما في حالة النجاح فنتائجها:(تكبر، تعنجه، تقديس بالذات كلياً، نكران الله) في كلا الحالتين يخسر الإنسان ربه قبل نفسه (لِأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟)"متى16: 26". مراحل يمر بها كل من يوعد وعداً معتمداً على قدراته الذاتية، دون أن يعلم بأنه محصور في المحدود الذي لن يقوى على كسر قيده سوى الإيمان بالرب يسوع. مهما كانت قدرة الإنسان فلن تقوى على ثقل حمل تنفيذ وعوده ولو حدث ونُفذت نسبة منها، فهي التي ستقوده إلى العنجهية والتكبر. أما عندما لا يقوى على الإيفاء بوعوده؛ بسبب إعتماده على ذاته 100%؛ مما سيحدو به إلى الإنزواء والإختفاء عن أنظار مَن نكث بوعده تجاههم.

الرب حذر بطرس عندما إندفع (فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَدًا.)"متى26: 33" أراد أن يثبت بأقواله عدم تراجعه وملازمته ليسوع المسيح مهما كانت النتائج، بالعكس أراد يسوع المسيح أن يبين له بدليل الإثبات فشل الإعتماد على القدرات الخاصة لأنها محدودة.

لا يمكن للإنسان منا؛ في عالم تغلبه الملذات وتسيطر عليه القوات الفردية وتقوده الخطط الشيطانية؛ أن يعتمد على ذاته التي تؤخر ولا تقدم، تُفشل ولا تُنجح، تُلحق الضرر وتهدم العلاقات وتُنسي الإعتماد على الرب فَتُضيع البركات. أن الإعتماد على الذات تؤدي بصاحبها إلى الإعجاب بنفسه، مما يؤدي به إلى التكبر، ثم تجعله لا ينظر إلى إلا نفسه كأنه واقفٌ أمام المرآة لا يرى إلا نفسه. من الأصح أن يقف الواحد منا تحت الصليب لكي يرى الرب يسوع المسيح، حتى يتريث لا يستعجل ولا يندفع، عندئذٍ سيصلب ذاته على الصليب، التي قد تحفزه للإعجاب بنفسه فتدفعه للإبتعاد عن الرب. كل إبتعادٍ عن الرب يعني خسارة روحية، تُحزن قلب يسوع. خسارة لا يفرح بها إلا الشيطان.

لطفاً. تريث يا أخي في الرب لأنه لا داعٍ إلى الإستعجال، ها هو الرب يوبخ بطرس (فَانْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلًا: اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ.)"مرقس8: 33" لأن عواقبه وخيمة، في مقدمتها خسارة الرب يسوع المسيح.

قبل نهاية الموضوع دعوني من خلال خبرتي البسيطة، أُعرف أو أَشرح لكم أعزائي القراء، بعض المصطلحات أو المفاهيم التي وردت في الموضوع كما يلي:

الضمير: هو الجانب الروحي في الفرد، هو صمام الأمان للأحاسيس والمشاعر. في حالة تأرجحه، تفقد الذات الأهدافها المرجوة منها.

الـ(أنا): هي جزء من نفس الإنسان أو ذاته التي تمتلك الغرائز، تحترس من الضمير، كلما ضعف الضمير تقوَّت الـ(أنا) دافعة بالأحاسيس والمشاعر إلى الإنحياد عن جادة الصواب.

الإستعجال: هو فقدان تحكم الإنسان بعقله لحظة البدء بعملية التعجيل. يشبه حال الإنسان هنا كمن يركض في الظلمة بدون مصباح، أو كمن يدخل بقاربه إلى البحر من غير مجذافين.

الإندفاع: هو قيام الإنسان بعمل من غير تفكير أو تخطيط، حيث تزجُّ به عواطفه الموجودة في الذات، في مجازفة نتائجها وخيمة. يشبه حاله حال شخصٍ جالسٍ فوق سطح الدار، فجأة ينهض راكضاً حتى يجد نفسه على الأرض، قد إنكسرت إحدى أطرافه.

المحامي و القاص

مارتن كورش تمرس لولو

 

 

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع