• كيف نعيش بسلام وسط أزمة الكورونا؟ د. رلى خوري منصور
كيف نعيش بسلام وسط أزمة الكورونا؟  د. رلى خوري منصور

غالبًا ما نتحدث عن وجود الله معنا في الصعوبات، كما يتحدّث الكتاب المقدس مرارًا وتكرارًا عن الله "تُرسنا" و"المُدافع عنّا". هذه كلها صور عن النزاع الذي هو أمر مركزي في سرد الكتاب المقدس منذ آدم وحواء. يدخل النزاع في نطاق رعاية الله ونشاطه، وفي الواقع إن قصة الخلاص وكيف صار الله إنسانًا ومات لأجلنا، تتحدث عن الارتباط الخلاّق والمحبّ والمخلّص لله في النزاع مع البشرية. لذا، بما أن ذلك كله يشكّل جزءًا من إيماننا، علينا أن نعي بأن الأزمات التي نواجهها في منازلنا وكنائسنا ومجتمعاتنا ودولنا، والتي تمسّنا مباشرةً هي أيضًا دوائر لتدخل إلهي. الله موجود معنا في حالات النزاع والأزمات ليتصرّف ويتحدّى ويرشد ويعلّم ويحرّر.

النزاع يمكن أن يجلب التهديد أو الفرص، إذ لديه القدرة على التدمير أو البناء، لأنّنا فيه نختار التصرف إمّا بشكل بنّاء أو مدمّر. لقد خلقت أزمة الكورونا نزاعات ومشاكل واسعة النطاق وفي مستويات عدّة: الجسدي (المرض أوالموت)، النفسي (القلق والتوتر)، الروحي (أين الله؟)، الاجتماعي (العزل)، الاقتصادي (البطالة)، التعليمي (إغلاق المؤسسات التعليمية)، والصحي (الضغط الهائل على الخدمات الصحية). لكن بالرغم من التهديد والدّمار الذي جلبته أزمة الكورونا، فهي تُعتبر أرضًا خصبة للفرص البنّاءة. 

لكن كيف نستطيع أن نعيش بسلام وأن نكون رُسل السلام في زمن الكورونا؟

تحتوي رسالة بولس الرسول الى أهل فيلبي (4: 2-9) على مقياس لفحص مواقفنا الشخصية أثناء النزاع:

"4 إفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، وَأَقُولُ أَيْضًا: افْرَحُوا. 5 لِيَكُنْ حِلْمُكُمْ مَعْرُوفًا عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ. اَلرَّبُّ قَرِيبٌ. 6 لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ. 7 وَسَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل، يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. 8 أخِيرًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ كُلُّ مَا هُوَ حَقٌ، كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ، كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ، كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ، كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ، إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةٌ وَإِنْ كَانَ مَدْحٌ، فَفِي هذِهِ افْتَكِرُوا. 9 وَمَا تَعَلَّمْتُمُوهُ، وَتَسَلَّمْتُمُوهُ، وَسَمِعْتُمُوهُ، وَرَأَيْتُمُوهُ فِيَّ، فَهذَا افْعَلُوا، وَإِلهُ السَّلاَمِ يَكُونُ مَعَكُم."

بحسب هذه الآيات هنالك 5 مبادئ علينا اتباعها للوصول الى موقف سليم أثناء النزاعات والأزمات: 

1) اِفرح في الرب كل حين:  بولس الرسول يحثّنا أن نكون فرحين في الرب. فرحنا في الرب لا يتأثر بالظروف الخارجية، مفرحة كانت أو محزنة، لماذا؟ لأن هذا الفرح ناتج عن ثباتنا بالمسيح، هو بمثابة مرساة ثابتة بحياتنا وأحد ثمار الروح القدس الساكن فينا. وحيث أن بولس الرسول يعرف أننا قد نهمل هذه النقطة فهو يكرّرها: "وأقول أيضًا: اِفرحوا". لكن ما هو الشي الذي يجعلنا نفرح بالرب وسط أزمة الكورونا؟ يمكننا أن نفرح بالغفران الذي حصلنا عليه بالمسيح وأن اسمنا مكتوب في سفر الحياة. يمكننا أن نفرح لأن الله أعطانا كلمته المقدسة، والروح القدس، والكنيسة من أجل إرشادنا ودعمنا وتقويتنا. يمكننا أن نفرح لأن الوضع الذي نحن فيه الآن هو ليس مجرد صدفة. فإن كنا ندرك أن الله هو صاحب السيادة والسلطان وأنه إله صالح، فسوف نعرف بأنه يعمل من خلال هذه الأزمة لما فيه خيرنا ومصلحتنا. فلنفرح بالرب ونجعل فرحنا كالفيروس المعدي في وقت يحتاج فيه العديدون للتشجيع والفرح.

2) ليكن حلمك معروفًا عند جميع الناس: الخطوة الثانية من اتخاذ موقف سليم وسط الأزمة هو أن نكون لطفاء وصبورين وودعاء وهذه صفات هي عكس سرعة الانفعال والتوتر والغضب التي يسببها النزاع. حلمنا ووداعتنا وسط المشكلة سيعكس حضور المسيح وقوته في حياتنا، ويحفظنا من سرعة الانفعال والتوتر، وبالتالي نستطيع التعامل مع الأزمة بحكمة وبطريقة بنّاءة. فبدل من أن نركز على المشكلة نجد أنفسنا نفكر بالحلول بطريقة خلّاقة. كيف من الممكن أن نكون لطفاء وودعاء وسط أزمة الكورونا؟ هنالك العديد من الأفكار والافعال التطوعية والمجتمعية التي عاينناها مؤخراً، فمثلاً: 1) فتحت الكنائس أبوابها في عدة أماكن في العالم لاستقبال المرضى والمحتاجين. 2) شكر الطواقم الطبّية التي تعمل بكل مثابرة وتضحية، إن كان من خلال صفحات التواصل الاجتماعي، أو التصفيق الجماعي بكل أنحاء البلاد، أو قرع أجراس الكنيسة. 3) مساهمة العديدين في نشر حملة "إلزم بيتك". 4) اقتراحات خلّاقة لتمضية الوقت في البيت بطريقة مفيدة. 5) الاهتمام بكبار السن. 6) توزيع الطعام مجانًا للمحتاجين. إن السلوك بلطف ووداعة يقودنا للتحرك بسخاء وتعاطف واهتمام صادق بحاجات الآخرين لنصبح بذلك رسل سلام. اللافت للنظر أن مثل هذه الأعمال الخيرية تم تداولها في بلدان عديدة في العالم. أليس هذا إثبات أن هذه الصفات تسبب العدوى أيضًا؟ فلنكن حاملين فيروس اللطف والوداعة والتعاطف وهدفنا عدوى الآخرين به.

3) تجاوَز القلق بالصلاة والشكر: من الطبيعي جدًا أن نقلق ونطيل التفكير بالظروف الراهنة والمستقبل المجهول في ظل هذه الأزمة. وحيث أن الرسول بولس كان يعلم أن الأفكار القلقة قد تتسلّل إلى عقولنا مهما بذلنا من مجهود في تجاهلها، فهو يوصينا بالتالي: استبدال القلق بالصلاة والشكر. لكن كيف نستبدل القلق بالشكر والصلاة؟ اكتساب الصفات الشخصية المرغوبة يتطلب منا القيام بنفس المجهود الذي يتطلبه اكتساب أي مهارة أخرى (كالرياضة البدنية مثلاً). أن نكون مصلّين وشاكرين هو قرار يوميّ واعٍ ومتكرر. وكلما تدرّبنا أكثر على الصلاة والشكر يصبح ذلك السلوك طبيعيًّا وتلقائيًّا. فنشكر ونصلّي باستمرار ونختبر قول داود الملك: "أما أنا فصلاة" (مزمور 4:109). بالصلاة والشكر نحن نتذكر أمانة الله معنا ونشكره على إحساناته ونطلب معونته في مواجهة التحدّيات الحالية.

حين نركّز على الله بالصلاة والشكر فإن السلام يحلّ مكان الخوف والصراع الداخلي، بالرغم من عدم زوال المشكلة. فيغمر السلام عقولنا وقلوبنا بطريقة تفوق فهمنا. نجد أنفسنا قد ارتفعنا فوق الأزمة وأصبحنا ننظر إليها بمنظار مختلف: منظار الله. فالأزمة لم تعد تقدر أن تكدّرنا أو تفقدنا سلامنا. إن مهمة هذا السلام هو حماية قلوبنا وأفكارنا من أن تقع أسيرة للأفكار السلبية الهدّامة. رغم أن هذا السلام قد يكون داخليًّا فقط في بادئ الامر، إلّا أنّه غالبًا ما سينمو ليصبح سلامًا خارجيًّا. فحينها يعمل الله في القلوب وتبدأ بعض الأمور غير المفهومة بالنسبة للعالم تحدث، مما يجلب المجد لله. الصلاة ولغة الشكر والقلب الشاكر والسلام كلّها تسبّب العدوى أيضًا. فنرى رسل السلام يملأون صفحات التواصل الاجتماعي بصلوات وتضرعات وتشجيع من خلال الوعظ والتعليم والتأملات والترانيم. فليتنا نستمر في نشر فيروس الشكر والدعاء والتشجيع.

4) اُنظر الى الأمور بالمنظار الصحيح: هنا يحثّنا بولس الرسول ألّا نستسلم لميلنا الطبيعي للتركيز على الأمور السلبية في الأزمة، إن استندنا على واقعنا السلبي نصبح أسرى فيه وفقاً لما نؤمن به ("لأنه كما شعر في نفسه هكذا هو" أمثال 7:23). إن الأفكار السلبية تقضي على قدرتنا في الحكم على الأمور بطريقة صحيحة. البديل هو البحث عن الفرص المفيدة والإيجابية. لكن ما هو الشيء الجليل أو العادل أو الطاهر أو المسرّ في أزمة الكورونا؟ حياة أبطال الإيمان تعلّمنا أنه عندما يسمح الله بوجود عائقة في حياتنا، فإنه يزوّدنا أيضاً بالوسيلة للتعامل معها. رغم أن الله لا يُسرّ بالمصائب إلا أنه حينما تأتي بحسب مشيئته فأنه يُسرّ بترتيب كل شيء فيها لمجده ولخيرنا. إن الرضا الحقيقي لا يأتي من فهمنا لمقاصد الله بل من فهمنا لصفاته (محب، صالح وعادل) وثقتنا بوعوده واتكالنا عليه وشعورنا بالطمأنينة معه، لأنه صالح ويعرف تمامًا ما يفعله. ما ميّز أبطال الإيمان يوسف، موسى ودانيال هو تواضعهم وإدراكهم لمحدودية فهمهم وحكمتهم، وبالتالي خضعوا لمقاصد الله! وحتى وسط الضيق والظلم آمنوا بأن الله هو المهيمن وأنه يحبهم. إن هذه الثقة ساعدتهم في التغلب على مخاوفهم وشكوكهم الطبيعية التي عانوا منها. الواقع أن هذه الثقة فتحت قلوبهم لاستقبال نعمة الله، ووهبتهم الحرية ليستمروا بعمل الخير ويكونوا رسل سلام. إن هذه الثقة بالله هي قرار شخصي وإرادي. فالتركيز على الثقة بالله وليس على التهديد الذي تجلبه أزمة الكورونا يجعلنا نفكر بالحلول وليس بالمشكلة. فمثلاً يمكننا أن نبدأ بتقييم حجم الأزمة الحقيقي وذلك من خلال التفكير السليم العلمي والمنطقي، وليس بناءً على التهويل والإشاعات التي تبثّها وسائل الإعلام. لربما من المحبّذ أن نقضي وقتًا أقصر، لكن كافيًا، لمعرفة كل ما يدور في العالم حول هذه الأزمة ونقضي وقتًا أطول في قراءة كلمة الله والصلاة، لمعرفة ما يدور في قلب الله الآب من نحو العالم. بهذه الطريقة نحمي أفكارنا من الانجراف للتفكير السلبي، وبنفس الوقت تكون لدينا المعلومات الكافية للتصرف بحكمة. فلنجعل التفكير السليم (الحق، العادل، الطاهر، المسرّ) فيروساً معديًا ولننشره بلا كلل.

5) طبّق كل ما تعلمته: المعرفة لا تعتبر معرفة- بالمعنى الكتابي للكلمة- إلّا إذا قمنا بوضعها موضع التنفيذ وطبّقناها.

جلبت الكورونا معها التهديد والخوف والعزل والمرض والموت. لكنها جلبت معها أيضًا الفرص. لربما استطاع فيروس الكورونا أن يعدي نسبة ليست بقليلة من سكان العالم، لكن من المؤكد أن فيروس الخوف استطاع الوصول إلى قلوب غالبية سكان العالم. ونحن، كرسل سلام المسيح لدينا القدرة على محاربة فيروس الخوف عندما نكون فرحين في الرب، لطفاء وودعاء، شكورين ومصلّين، وإيجابيين في تفكيرنا وسلوكنا. لكن تأثيرنا الأكبر يكون عندما يتحوّل الفرح والسلام واللطف والشكر والدعاء والتفكير السليم إلى فيروسات لها قدرة العدوى التي بإمكانها اضعاف فيروس الخوف.

 

د. رلى خوري منصور هي مديرة دراسات السلام في كلية الناصرة الإنجيلية

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع