• لن تترك نفسي في الهاوية – بقلم القس حنا كتناشو
لن تترك نفسي في الهاوية – بقلم القس حنا كتناشو

            الهاويةُ هي مكانُ الموتِ والألمِ والعذابِ والأمراضِ والصُّعوبات. هي عالمُ الشَّيطان وخدامه. هي عالمُ المجرمين والسَّفاحين والقتلة. للهاوية مقرٌ وجيوشٌ ورئيسُها الشَّيطان. الهاويةُ هي المكانُ الَّذي تنتشرُ فيه قوانينُ جهنم وهي الحالةُ الَّتـي تسود على أبناء آدمَ وبنات حواءَ إلّا إذا تدَّخل اللهُ. بعضُنا يعيش في قبضة الهاوية ويتألّم من مخالبها وبعضُنا سيصل إلى مزابلها ليسكن هناك. وبعضُنا في حربٍ معها. ونجد هذه العبارة "لن تتـرك نفسي في الهاوية" لتعبّـر عن ثقتنا بالله الحي الَّذي يُحرّرنا من قبضة الموت الجسدي والرُّوحي والأخلاقي والأبدي. فأين ذُكرت هذه العبارة؟ ومن ذكرها؟ وما هي قصتها؟

يتحدَّث النَّبيُّ داود بروحٍ نبويةٍ عن قيامة المسيح في المزمور السادس عشر. ويذكر هذه العبارة "لن تتـرك نفسي في الهاوية". ولقد اقتبسَ هذا المزمور رسولين. تحدَّث عنه الرَّسولُ بطرس عندما خاطب الجموعَ يومَ الخمسين أو العنصرة حين حلَّ الروحُ القُدُس على الجموع في أورشليمَ. خطب بطرسُ خطبتَه الشَّهيرة. فتحدَّث عن حياة السَّيد المسيح وعجائبه وآياته وصلبه وقتله. ثُمَّ بيّن أنَّ قيامتَه في صُلب "مشورة الله المحتومة وعلمه السَّابق" (أعمال 2: 23). ولكي يؤكّد الرَّسول بطرس هذا اللّاهوت اقتبس المزمورَ السّادس عشر قائلا: "لأن داود يقول فيه: كنت أرى الرب أمامي في كل حين، أنَّه عن يميني، لكي لا أتزعزع. لذلك سُرَّ قلبي وتهلل لساني. حتى جسدي أيضا سيسكن على رجاء. لأنك لن تتـرك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فساداً" (أعمال 2: 25-27). وعلّق الرَّسولُ بطرس قائلاً: لقد مات داودُ ودُفن وقبـرُه عندنا حتَّى هذا اليوم ولكنَّ داودَ تكلم عن نسله الَّذي سيغلب الموتَ ويقوم من بين الأموات (أعمال 2: 29-31).

            وتحدّث الرسول بولس عن المزمور السادس عشر. فعندما كان داخل المجمع اليهودي خطبَ فيهم. وبعد أنْ عرضَ تاريخَ إسرائيل حتَّى داود، تحدّث عن تتميم الوعود عن طريق نسل داود. وشرح كيف عاش يسوع وصُلب ومات وقُبـر. ثُمَّ أضاف قائلاً: "ونحن نُبشركم بالموعد الَّذي صار لآبائنا، إنَّ اللهَ قد أكملَ هذا لنا نحن أولادُهم، إذ أقام يسوعَ كما هو مكتوب" . . . "لن تدع قدوسك يرى فساداً" (أعمال 13: 32 – 35). اقتبس الرَّسولُ بولس المزمورَ السَّادس عشر. فلنتأمل معاً في هذا المزمور الَّذي أحبه الرُّسل واستخدموه زمن القيامة.

            يُصنّف الباحثون المزمورَ السَّادس عشر بأنَّه "مذهبة" أي أنَّه من المزاميـر الذَّهبية. وهو مزمورُ ثقةٍ زمن الموت. ويقع المزمورُ ضمن مجموعة من المزاميـر تمتد من مزمور 15 إلى مزمور 24. تتحدَّث هذه المجموعة في بدايتها ونهايتها عن الدّخول إلى جبل الرب، أو عن الدخول إلى موضع القداسة والبركة والخلاص الإلهـي. وبينما تتحدَّث بدايةُ المجموعة عن عدم الزَّعزعة والثَّبات الأبدي تتحدَّث نهايتُها عن ملكِ المجد الَّذي تُفتح له الأبوابُ ليتحقق هذا الثَّبات. وعادةً نقتبس هذا المزمور في أحد الشَّعانين.

            في ضوء مفهوم الرُّسل والكنيسة ومفهوم مجموعة المزاميـر 15-24 الَّتـي تتحدَّث عن الدخول إلى عالم الخليقة غيـر المتزعزعة. يظهر مزمور 16 ليؤكّد أهمية قيامة السَّيد المسيح. ونجد في هذا المزمور عدةَ أمورٍ تتحدانا وتُرشدنا. سأذكر أمرين.

            أولاً، يُشدّد المزمورُ أنَّ رجاءَنا في الله وحده. ويجب عدم المساومة على ولائنا لله الواحد. فزمن القيامة هو زمنُ عدم المساومة. فلا مجال لوضع ثقتنا في مخلّص آخر أو في إله آخر. يقول المزمورُ "لا شيء غيـرك" . . . "تكثـر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر" . . . " الرب نصيب قسمتي وكأسي" . . . "جعلت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع". زمنُ القيامة هو الزَّمنُ الَّذي نُشدّد فيه على عدم المساومة على الحق. الأمورُ الَّتـي تتزعزعُ تُنـزع وتبقى الأمورُ الأبديةُ الَّتـي يرضى اللهُ عنها. فلا مجال لعبادة إلهين وربين. يخصّص صاحبُ المزمور حياتَه وفكرَه وعواطفَه لخدمة الله وحده وليس لإرضاء النَّاس الَّذين أسرعوا وراء آخر. فمن يجعل الرَّبَ أمامَه سيختبر أنَّ الرَّبَ عن يمينه ولا يتـزعزع.

            ثانياً، يُشدّد صاحبُ المزمور أنَّ زمنَ القيامة هو زمنُ الثّقة.  وتجلب الثّقةُ الفرحَ والابتهاجَ لأنَّ اللهَ قادرٌ أنْ يُنجينا من قبضة الشَّيطان ومن عالم الموت، وقادر أنْ يُعطينا الابتهاجَ. يقول صاحبُ المزمور: "لذلك فرح قلبي وابتهجت روحي" ويقول أيضاً: "أمامك شبع سرور"، أي أنَّ الفرحَ بانتصار الله هو فرحٌ كاملٌ. مصدرُ هذا الفرح انتصار الله الَّذي داسَ الموتَ وقهرَه. ويضيف صاحبُ المزمور أنَّ عالم الموت "שאול" لن ينتصر. لن يتـرك اللهُ نفسَ التَّقي في الهاوية ولن يدع فسادَها يلمس تقيَّه. فلقد أعدَّ في داخل الهاويةِ طريقاً للحياة. يقول المزمورُ: "تعرّفنـي سبيل الحياة". وجعل هذه الطريق تفيض بالخير والنّعم الأبدية. لقد نزلت الحياةُ إلى أعماق الموتِ واعتقت أسرى الموت ومنحتهم الحياة.

            أحبائي، المسيحُ قام. أقرَّ الرَّسولُ بطرس واعتـرف الرَّسولُ بولس وصرَّح النَّبيُّ داودُ أنَّ المسيحَ قام. لقد غلب الموتَ بثقته بالله وغلبَ المساومةَ بالتَّمسك بالحب والقداسة حتَّى الموت. أحبهم حتَّى المنتـهى. وأطاع ربَّ القداسة حتَّى قال: "قد أُكمل". وغلب أحزانَ الأرضِ بفرحِ السَّماءِ. تحاشى السَّيرَ وراءَ آخر إذ جعلَ الرَّبَ أمامَه في كلِّ حينٍ. لا نستطيع أنْ نحتفلَ بالقيامة دون ثقة الإيمانِ وعزم الوفاءِ لابن الإنسانِ. المسيحُ قام. وإنْ أردنا أنْ نقول: "حقاً قام"، فعندئذٍ نلتـزم بأن نعلنه رباً وأنْ نثقَ بقيادته في كلّ حينٍ. ونعلن أيضاً أنَّنا لن نخذله أو نخونه أو نُسرع وراءَ آخر، بل عهدُنا عهدُ الوفاء لمن غلب الموتَ وقام وصعد إلى السَّماءِ. المسيحُ قامَ.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع