• المسيحيَّة الصهيونيَّة مرفوضة روحيًّا - فارس إبراهيم أبو فرحة
المسيحيَّة الصهيونيَّة مرفوضة روحيًّا - فارس إبراهيم أبو فرحة

من منطلق قناعتي الراسخة في الإيمان المسيحيِّ القويم وفي شخص الربِّ يسوع المسيح له كلُّ المجد، وتوضيحًا لمواقف الكثيرين من المسيحيِّين الذين أحتكُّ بهم حول العالم، وتنويهًا أنَّني فلسطينيٌّ مسيحيٌّ أبًا عن جد، أودُّ في هذا المقال تسليط الضوء على المسيحيَّة الصهيونيَّة بناءً على مفهومي الروحيِّ لها. لقد باركني الله بعلاقات كثيرة مع جنسيات وأعراق مختلفة، وإني أكنُّ للجميع كلَّ الاحترام والتقدير والمحبَّة بغضِّ النظر عن اختلاف العِرق والدين والمعتقد. وآملُ في هذا المقال أن أبرِزَ بإيجاز بعض ومضات النور المعلنة في الكتاب المقدس الذي نجلُّه ونحيا بموجبه فوق كلِّ كلمة وحكمة بشريَّة.

 

المسيح هو غاية العهد القديم. فكلُّ ما فيه يدل عليه ويرمز إليه وينتظره، بل هو موضوعه (رومية 10: 4؛ لوقا 24: 27). ولهذا نرى نحن المسيحيُّون آثار يسوع وبصماته في العهد القديم ظلالًا ورموزًا لما قام به فعليًّا خلال أيَّام تجسُّده بين شعبه. وأودُّ أيضًا التنويه إلى أنَّ الأتقياء في العهدين القديم والجديد هم شعب واحد، وأنَّ نظرتهم إلى شخص الفادي يسوع المسيح تجمعهم. إذ قد نظر أتقياء العهد القديم إلى المسيح على أنَّه الرجاء، ورأى أتقياء العهد الجديد في يسوع المسيح تحقيق هذا الرجاء. لقد جمع الله في كنيسة المسيح، ابنه، في العهد الجديد المؤمنين به كلَّهم. ولذلك نستطيع القول إنَّ المؤمنين بالمسيح- بغض النظر عن خلفياتهم، سواء أكانوا يهودًا أم من بقيَّة الشعوب- هم شعب الله المختار المفديُّ وأولاد الموعد. لأنَّ الوعد صار لنسل إبراهيم وليس ’’لأنسال‘‘. أي أنَّ الوعد كان لنسل إبراهيم الوحيد الذي هو المسيح. وبناءً على ذلك، تعامل الله مع الشعب اليهودي في العهد القديم لكي يتمجَّد من خلال وعده لإبراهيم ويتبارك بنسله الذي هو المسيح أمم المسكونة كلِّها.

 

وعندما ننظر إلى الشعب اليهوديِّ غير المؤمن بالمسيح اليوم، وكيف ’’فاته‘‘ (عبرانيين 2: 1 و3) الدخول إلى أرض الموعد الروحية في المسيح ’’لعدم الإيمان‘‘ (عب 3: 18-19)، لا يسعنا إلَّا أن نرفع الصلاة لأجلهم ليعودوا إلى روحانيَّة الأنبياء في العهد القديم، والقيم الأخلاقيَّة السامية الواردة فيه، فيدلهم سراج النبوة ليهتدوا به إلى النهار الكامل في وجه يسوع المسيح (2كو 4: 6؛ 2بط 1: 19). ولن يُرفع البرقع عن وجه قارئ العهد العتيق إلَّا إذا رجع إلى الربِّ (2كو 3: 14-16).

 

لا أعرف إذا كان هناك نصٌّ يوضِّح هذا المبدأ الروحيَّ أكثر من كلمات يسوع المسيح، المدوّنة في إنجيل متى 21، عن مثل صاحب الكرم. فبعد أن أرسل الله عبيده الأنبياء للشعب اليهوديِّ مرارًا وتكرارًا مناديًا لهم بالتوبة والرجوع وقبول وعد المسيَّا المنتظر، رفضوا عبيد صاحب الكرم وقتلوهم، وهؤلاء يُمثِّلوا أنبياء العهد القديم الذين لم يتجاوب شعب إسرائيل مع رسالاتهم. ويجب أن نأخذ في اعتبارنا أنَّ يسوع يكلِّم اليهود مباشرةً في هذا النصِّ. فعندما فشل العبيد كلُّهم في إصلاح شرِّ الكرَّامين، أرسل صاحب الكرم ابنه الوحيد، لكنَّهم قتلوه أيضًا. فماذا يفعل صاحب الكرم؟ نرى هنا أن مقولة النبوة تمَّت حين قال يسوع "الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ" (مزمور 118: 22). فالمسيح المرفوض من اليهود هو الأساس الذي بُنيَ عليه خلاص الجنس البشريِّ. ومن دون لفّ ودوران أو استخدام تعابير غامضة على اليهود وقادتهم الدينيِّين، قال الربُّ يسوع المسيح لهم: "إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ" (متى 21: 43).

 

إنَّ ما يقترحه لاهوتيُّون كثر وعدد كبير من الكنائس الغربيَّة المؤيِّدة للكيان الصهيونيِّ وسياساته اللاروحية حول هذه المسألة تُناقض كلمة الله قلبًا وقالبًا. فليس هناك شعبان مختاران. فالله له شعب واحد فقط يدعى الكنيسة التي اشتراها بدمه (أعمال 20: 28). هناك شريحة كبيرة من المسيحيِّين الذي يتبنُّون فكرة أن الله لم ينسَ عهده مع الشعب القديم أو أن هناك فرصة أخرى للخلاص غير متوفرة لغير اليهود ستأتي في المستقبل المجهول. لم ينسَ الله عهده مع إبراهيم، بل أتمَّهُ في المسيح مانحًا إيَّاه لكلِّ الذين قبلوه حيث أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله (يوحنا 1: 12).  ويُفضي هذا الميل أو الاعتقادُ الخطأُ إلى مأزقٍ. فما ذنب اليهوديِّ الذي لم يطل عمره أو يطول به ليستفيد من فرصة الخلاص المستقبليَّة؟ وكم من ملايين اليهود ماتوا من دون التمتُّع بخلاص المسيح؟ أين عدل الله وإنصافه؟ لماذا يقتصر الخلاص على بقية أقلِّية من اليهود بعد اختطاف الكنيسة؟ أقولها بصريح العبارة، لا يوجد لهذه المعتقدات كلِّها أساسات كتابيَّة، لكنَّها تُستخدم لأغراض خارجة عن سياق النص الكتابي.

 

فقد تسلَّلت هذه المعتقداتُ إلى الكنيسة ودخلت تعاليمها في القرن التاسع عشر. ومن المؤسف أننا نرى عددًا هائلًا من الناس يقتبسون آيات تبرهن عكس حجتهم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تقول رسالة رومية: "ليسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللهِ، بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً (رومية 9: 8). فالوعد إذن لأولاد الإيمان وليس أولاد الجسد. ويدل هذا على أن الذين يؤمنون بالمسيح هم إسرائيليُّون حقًّا، أي أبناء الموعد. ويستطرد الكتاب قائلًا في الإصحاح 10 إنَّه لا فرق بين يهوديٍّ وأمميٍّ. إذ لا تتمثل الميزة في الجنسيَّة والانتماء العرقيِّ، بل بالإيمان بيسوع المسيح. وعلاوة على ذلك، يؤكِّدُ الإصحاح 11 أن أصل الزيتونة هو أبو المؤمنين، إبراهيم (ومن المهمِّ الإشارة هنا أن إبراهيم لم يكن يهوديًّا) لا الشعب اليهوديُّ. ومن الجدير بالذكر أنَّ إبراهيم، عندما جاء من حاران، عاش غريبًا في تلك الأرض، ولم يشرع في احتلالها بالقوَّة، حسب وعد الله له. فكان تعلُّقه الجوهريُّ بالله لا بالأرض. ’’بالإيمان تغرَّب في أرض الموعد كأنَّها غريبة، ساكنًا في خيام مع إسحق ويعقوب الوارثين معه لهذا الموعد عينه. لأنَّه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله‘‘ – عبرانيين 11: 9، 10. وعندما أراد أن يحصل على أرض كفيلة لتكون قبرًا لزوجته سارة، لم يستولِ عليها بالقوَّة بحجَّة أنَّها له بموجب وعد الله، بل اشتراها بمالٍ، رافضًا أن تُمنح له هدية بلا ثمن – (تكوين 23: 1 - 20). عندما يؤمن أي إنسان أمميٍّ بالمسيح، فإنَّه يُطعَّم في تلك الزيتونة. فالشعب اليهوديُّ قُطِع من هذه الزيتونة برفضه المسيح. فعندما آمنتُ أنا الأمميُّ بالمسيح، صرت شريكًا في أصل الزيتونة ودسمها (رومية 11: 17). فالزيتونة واحدة، وكلُّ من يؤمن بالمسيح يُطعَّم فيها ومن لا يؤمن يُقطع منها. ويؤكد ذلك قولُ المسيح شخصيًا: ’’وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضًا فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ‘‘ (يوحنا 10: 16). أي إنَّ هناك شعبًا واحدًا وربًا واحدًا. فكلمة الله تُعلِّمنا: "وَأَمَّا نَحْنُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَنَظِيرُ إِسْحَاقَ، أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ" (غلاطية 4: 28).

 

وإضافة إلى هذه الشواهد الكثيرة التي تؤكِّدُ أن الإيمان بالمسيح يُدخِلُ الإنسان في عهد مع الله، يكتب بولس الرسول (اليهوديُّ الأصل من سبط بنيامين) في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي ويقول: "فَإِنِّكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ صِرْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِكَنَائِسِ اللهِ الَّتِي هِيَ فِي الْيَهُودِيَّةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لأَنَّكُمْ تَأَلَّمْتُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ عَشِيرَتِكُمْ تِلْكَ الآلاَمَ عَيْنَهَا، كَمَا هُمْ أَيْضًا مِنَ الْيَهُودِ، الَّذِينَ قَتَلُوا الرَّبَّ يَسُوعَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ، وَاضْطَهَدُونَا نَحْنُ. وَهُمْ غَيْرُ مُرْضِينَ ِللهِ وَأَضْدَادٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ. يَمْنَعُونَنَا عَنْ أَنْ نُكَلِّمَ الأُمَمَ لِكَيْ يَخْلُصُوا، حَتَّى يُتَمِّمُوا خَطَايَاهُمْ كُلَّ حِينٍ. وَلكِنْ قَدْ أَدْرَكَهُمُ الْغَضَبُ إِلَى النِّهَايَة" (1 تسالونيكي 2: 14-16). فما هي عقيدة بولس بشأن هذا الأمر؟ لابدَّ أنَّ الكتاب المقدس يتكلَّم بقوَّة أعظم من أيَّة حجَّة بشريَّة. والجدير بالذكر أنَّ الرسول العظيم بطرس ينعتُ كنيسة المسيح بألقاب كانت محصورةً بشعب العهد القديم فقط. فقوله: ’’وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ‘‘ (1 بطرس 2: 9)، ويثبتُ هذا بدليلٍ كتابيٍّ قاطعٍ أنَّ الكنيسة هي التي تحظى بالوعود والعهود. فهل اليهود في إسرائيل الحديثة كهنة وملوك وأمَّة مقدَّسة؟ فكيف نجعلهم شعب الله رغمًا عنه ورغمًا عنهم؟ أكَّد يسوع أنَّ إخوته وأخواته هم الذين يفعلون مشيئة الله. قال يسوع: ’’أمِّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها‘‘ (لوقا 8: 21). فهل هذا هو واقع حال يهود إسرائيل الآن؟ ومن المؤكَّد أنَّهم ليسوا أبناء الله بالتبنِّي، لأنَّهم رفضوا المسيح نفسه الذي يتبنَّانا لله. وفضلًا عن ذلك، فإنَّهم ليسوا أبناء الله لأنَّ الروح القدس، روح المسيح وروح التبنِّي، لا يسكنُهم. وأبناء الله الوارثون يُقادون بروح الله (رومية 8: 14). وأمَّا الآخرون فعبيد لا يرثون (غلاطية 4: 1 – 7). والآن لديهم الفرصة، كباقي كل البشر، للتوبة والرجوع والإيمان بالمسيح لنوال الخلاص وغفران الخطايا.

 

فما هو موقفنا كمسيحيين إبان الدعم الأعمى لدولة إسرائيل والمشروع الصهيوني؟ إن كلمة الله بريئة من كل ما ترتكبه دولة إسرائيل السياسية من مصادرة أراضٍ، وانتهاكات عدوانية، وقتل، وتهجير مئات الآلاف من الناس الأبرياء. فالدفاع عن هذه الممارسات أو السكوت عنها من أجل عيني إسرائيل إنما دفاع غير مدفوع بالمبادئ الكتابية المقدسة التي تدعو إلى العدل واحترام آدمية الإنسان قبل الصوم والصلاة (إشعياء 58). ومن المؤكد أن إسرائيل الحالية لا تمثل إسرائيل القديمة إلاّ في أسوأ شرورها. وفي ضوء هذه الحقيقة، فإن عودة اليهود إلى فلسطين لا يعني عودتهم إلى الله. فلا تأثير للمكان في الارتباط بالله قرباً وبُعداً. وهم ما زالوا في السبي روحياً. ومنحن كمسيحيّين نطالب بوقف أنواع التمييز العنصري كلها التي تمارسه إسرائيل بحقّ الشعب الفلسطيني وعرب إسرائيل أيضاً، ونطالب بإنهاء الاحتلال غير الشرعي في مناطق الضفة الغربية والقدس الشرقية، وإعطاء الكرامة وحق العودة لكل الذين هجّروا من بيوتهم والذين ما زالوا محتفظين بمفاتيحها إلى هذا اليوم. إننا نرفض كل سياسة تعتدي على حقوق الإنسان الأساسية في الحياة بغض النظر عن جنسهم أو لونهم أو انتمائهم العرقي والديني. ونطالب بالعيش المشترك والسلام مع الجميع، كما أوصانا رب المجد أن نتّبع السلام مع الجميع يهودًا وأممًا.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع