• تأنس الله - بقلم القس حنا كتناشو
تأنس الله  - بقلم القس حنا كتناشو

التأنس أوسع من التجسد. لم يأخذ الله جسدا بشريا فحسب بل صار بشرا بالجسد والروح والنفس. وسنشرح أسباب تأنس الله بعد أن ننظر إلى تعدد طرق الاحتفال بالميلاد في بلادنا. تتعدد طرقُ التفكيـر في الميلادِ. ولهذا سأُقدِّم أربعةَ توجهاتٍ مجتمعيةٍ تتحدَّث عن الميلاد ثمَّ سأشرح ضرورةَ تأنس الله من منظورٍ مسيحيٍ.

أولاً، يتحدَّث البعضُ عن جغرافية الميلاد ويشددون عليها إذ تأنسَ اللهُ في الناصرة ثمَّ وُلد في بيت لحم. لقد كلَّم الملاكُ جبرائيل العذراءَ مريم في الناصرة حيث تربى يسوعُ وعاش. ففي ملء الزمان تأنس اللهُ وتفاعل الثالوثُ مع مريمَ العذراء إذ نالت نعمةً عند الله وضلّلتها قوةُ العليِّ. فحلَّ عليها أقنومُ الروح القدس فلم تحتاج إلى زرع بشري بالرّغم من أنها حبلت بإنسان كامل. وهكذا أضاف الله طريقةً جديدة في تشكيل البشر. فلقد نتج إنسان كامل حين نفخ اللهُ في التـراب الذي جبله وحين بنى اللهُ من ضلع آدم امرأةً وحين ولدت حواءُ الأولادَ والبنات وأيضا حين حلَّ الروح القدس على مريم. تعددت الوسائل وكانت النتيجةُ إنسانا كاملا. خُلق آدم من التـراب وحواء من ضلع سبق وجودها والنسل البشري من أبوين أما الله المتأنس فكان موجودا بكامل وعيه ثم أضاف قبل نحو ألفي عام الطبيعة البشرية من خلال مريم. وضللت قوةُ الله مريمَ العذراء حين حلَّ الأقنومُ الثالث عليها وقدَّس مستودَعها فحملت بطفل خلافا عن كل الأمهات إذ تفردت عن كل بنات حواء بآدمي دون الخطيئة الأصلية. وبعد تسعة شهور ولدت العذراءُ ابنَ الله الأزلي المتأنس. وُلد يسوعُ في بيت لحم إذ يقول النبـي ميخا: "أما أنت يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل" (ميخا 5: 2). ويتحدث الكثيـرون عن التواصل الجغرافي مع يسوع فهو ابنُ الناصرة وهو التلحمي. وربما يقول آخرون، إنه الفلسطيني لأنه وُلد في فلسطين. ونجد في خرائط الكتاب المقدس العنوان التالي: فلسطين في أيام المسيح.

ثانيا، يشدد البعض على تاريخية الميلاد كما دوَّنها البشيريون متى ولوقا فيذكرون القديسة العذراء ويوسف البار والمجوس وسمعان الشيخ وحنة النبية وزكريا واليصابات ويوحنا المعمدان والرعاة وهيـرودس وأوغسطس قيصر وكيرينيوس والي سورية وغيـرهم. وهذا توجه تاريخي لاهوتي مقبول. ولكن للأسف يتحاشى بعض المؤرخين اللغة الدينية والحديث عن الملائكة والمعجزات. فيقدمون الميلاد من منظور بشري لا علاقة له بتدخل السماء بشؤون الأرض.

ثالثا، يتحدث الكثيـرون عن طقسية وشعائر الميلاد الشعبوي أو الميلاد كما يعيشه الشعب. وعندما ندرس الميلاد الشعبوي نكتشف اختلاط الحدث التاريخي في القرن الأول مع الكثيـر من التقاليد الكنسية وغيـر الكنسية عبـر العصور. فتاريخ الميلاد مرتبط بعيد وثني كان في شهر ديسمبر. وتضيف الشعائر الميلادية الشعبوية شعائر لا علاقة لها بالكتاب المقدس مثل اضاءة الشجرة وبابا نويل وغزلانه وهداياه في القطب الشمالي وأقزام الميلاد. ولقد استولت الايديولوجيات التجارية على الميلاد الشعبوي فأضحى حدثا مكلفا يخدم آلهة المال ويستغله التجار.

رابعا، نعيش في شرق أوسط متدين. أحيانا نتـرجم التدين إلى شعائر واحتفالات أو إلى إيديولوجيات تسيرنا في هذه الحياة. ولهذا من الضروري أيضا أن نذكر تدينية الميلاد أو روحانيات الميلاد الشعبوية أو بين الناس وليس بالضرورة في الكتاب المقدس. يعتـرض فقهاء المسلمين على الاحتفال بعيد الميلاد. فلا يجوز للمسلم تهنئة المسيحي في عيد الميلاد لأن ذلك يدل على الرضا والإقرار بما يمثله الميلاد إلا أن الإسلام الشعبوي لا يتصرف دائما بحسب الفقه الإسلامي الأصولي. ويكثـر الحديث في الميلاد عن هوية السيد المسيح. يصرح المسلمون أنه نبيٌ مسلم ولكن فقهاء المسلمين يسخرون من التأنس ويرفضونه. ويذكر اليهود التواصل الاثنـي مع يسوع اليهودي ولكنهم يعارضون ويقاومون عقيدة تأنس الله. ويشرح الملحدون الإصلاح الاجتماعي المرتبط بهوية يسوع ابن الناصرة دون الاعتـراف حتـى بوجود الله بل يؤطرون الله في أدب الخرافات والخزعبلات والأساطير الدينية.

وهكذا نحتفل بالميلاد وحولنا من يتمسك بيسوع المسلم ويسوع اليهودي ويسوع المصلح الاجتماعي ويسوع الفلسطيني. ولكن الميلاد يجب أن يأخذنا لروحانية اللامحدود المتحيـز. الكلمة الأزلي الذي صار بشرا وحل بيننا (يوحنا 1: 14). فالله غيـر المحدود والإله الموجود في كل مكان تحيـز بتأنسه دون تغيـر في لاهوته. فصار إنسانا في زمكانية محددة وهو في ذات الوقت الإله الأزلي كلي الوجود. هذا هو سر التجسد الذي يدعونا أن نتأمل في روحانية الله المتأنس.

وقضية تأنس الله قضية تدعو للدهشة. لم يصبح الله مشابها لنا بل صار واحدا منا. صار إنسانا مثلنا فاسترد كرامة الإنسان وأكرم صورة الله. كنا مع الله في آدم ففقدنا الله ولكن الله معنا في المسيح ولن يفقدنا إلى الأبد. قال القديس اغسطينوس: خالق الزمن وُلد في زمن معين. صانع الإنسان صار إنسانا يرضع من ثدي أمه. خبـز الحياة يمكن أن يجوع. ينبوع الحياة صار يعطش. الطريق يتعب في الطريق. والحق يُتهم من شهود زور. ديان الأحياء والأموات يُدان من قاض مائت . . . الذي يشفي الآخرين يُجرح . . . والحياة يمكن أن تموت. وقال ذهبي الفم: قديم الأيام صار طفلا. الجالس على العرش السماوي العلي صار يرقد في مذود. نعم، إن تأنس الله مدهش ولكن الغرض منه ليس إثارة الدهشة.

فما هي بعض أهداف التأنس الإلهي؟

أولا، تأنس الله من أجل فداء البشر. فالتأنس ضروري للفداء ولمعالجة مشكلة الخطيئة. لقد خلق الله الإنسان على صورته فكرّمه أكثـر من كل الكائنات الأخرى. ثم أعطاه سلطانا على كل الخليقة فرفّعه أكثـر من الجميع. ولكن الإنسان اختار أن يعصي الله فنال جزاء الخطيئة ودخل الموت واللعنة والألم والمرض عالمنا. وقال الله للإنسان: "من جميع شجر الجنة تأكل أكلا وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتا تموت" (تكوين 2: 17). يُعلّق القديس أثناسيوس على هذه الآية مؤكدأ أن الله العادل والقدوس يجب أن يحاكم الخطيئة ولا يمكن للرب العادل الصادق أن لا يلتزم بما قاله. ثم يصف لنا أربعة أنواع من الموت: (1) الموت الروحي وهو إنفصال الإنسان عن الله، (2) الموت الأخلاقي، وهو تشوه صورة الإنسان في حياته، (3) الموت الجسدي، وهو انفصال الروح عن الجسد، (4) والموت الأبدي وهو العذاب الأبدي تحت غضب الله. لقد كسر آدم وصية أعظم كائن في الوجود ويتناسب مقدارُ خطئه مع مقدار عظمة الشخص الذي أخطأ إليه. فعندما نخطئ لشخص عظيم وقوي وحساس ضد أي خطيئة وغيـر محدود في حساسيته وعظمته فإن العقاب غير محدود لأنه يجب أن يتناسب مع قداسة الله وعدالته ومع مقدار الأهانة ضد ملك القداسة وينبوع العدالة. ولكن موت الإنسان ضد رحمة الله. إلهنا رحيم وإله الفرص الثانية. وموت الإنسان ضد كرامة الله لأن الإنسان مخلوق على صورة الخالق. وموت الإنسان ضد قدرة الله القادر أن يغلب كل المشاكل. وموته ضد حكمة الله الذي خلق الإنسان للبركة وليس للعنة. ولهذا وجد الله الحل بتأنسه وأخذ جسدا قابلا للموت فحافظ على معايير القداسة والعدالة واستوفاها إذ تأنس اللامحدود فقدم ذبيحة تستطيع أن تستوفي متطلبات القداسة اللامحدودة لأنه الله المتأنس ولا يوجد كائن غير محدود سواه. ولهذا التجسد ضروري لأن حكم الخطيئة ساد على الأرض التـي خلقها الله ووصف خليقته بأنها جيدة وصالحة. والتأنس ضروري لأن العدل الإلهي لن يتم دون الله المتأنس. فالعدل مرتبط بحكم الله وليس بحكم الناس. ولهذا يجب أن يُخلق الإنسان من جديد لعلاج مشاكل الخليقة الأولى. وسيتم ذلك يوم الجمعة أي في نفس اليوم الذي خُلق فيه الإنسان. إذا التأنس ضروري للفداء. فلن يستطيع خاطئ أن يفدي خاطئا لأنه مُدان بالموت. والجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. ولا يستطيع إنسان واحد حتى ولو كان بدون خطيئة أن يفدي كل البشرية. ولكن الله المتأنس جسّد البر الإلهي وقدّم نفسه ذبيحة بدلية تفوق قيمتها كل أبناء آدم وبنات حواء.

ثانيا، التأنس ضروري لإعلان حكم الله على الأرض. الله هو إله العدالة والسلام والمحبة. ولقد انتشر على الأرض الظلم والقتل والعنصرية والحروب والقلاقل والمؤامرات. وتوّج الناس الشيطان ملكا فسفكوا الدماء ونشروا الأكاذيب وأحبوا الزنى ورفضوا الله وشرائعه ومحبته. التأنس هو إعلان حكم الله الأبدي وقدوم ملكوت الله على الأرض. ويصف أثناسيوس التأنس كملك أسس مدينة وبنـى بها بيتا له ولكن اللصوص احتلوا المدينة ودمروها أفلا يأتي الملك ليخلص مدينته؟ ليس الميلاد عن قدوم طفل جديد فحسب بل عن قدوم عالم جديد بأكمله. إنه عن مجيء الملك المخلص. ولهذا الميلاد هو البشارة للمساكين والسلام للمكروبين. إنه الخبـر السار لأن الفرج قريب ومملكة الشيطان ستنقض والشر سينقرض. إنه خبـر السماء أن الموت لن يسود والكآبة لن تسيطر والظلمة ستنقشع. لقد وُلد المسيح في عالم مظلم فجلب النور. وُلد وسط الكراهية فجلب المحبة. قال كلماته الخالدة في الموعظة على الجبل: أما أنا فأقول لكم . . . احبوا اعداءكم وباركوا لاعنيكم. وُلد زمن هيـرودس واغسطس سافكي الدماء ولكنه رئيس السلام.

ثالثا، التأنس ضروري لوجود نائب عن البشرية ينجح مع الله ويسترد كرامة الإنسانية. لقد فشل آدم وحواء ونسلهما عبـر التاريخ. وأهمل الإنسان العلاقة الصحيحة مع الله. فلم نقضي الوقت في الصلاة ولكن المسيح صلى طوال الليل. وأهملنا الصوم ولكنه صام اربعين يوما وليلة. وسقطنا أمام الشيطان ولكنه انتصر عليه في كل المعارك. وتكبّرنا وخضعنا لشهواتنا الفاسدة ولكنه جسد الطهارة والوداعة والتواضع. وأهملنا وصية الله ولكنه أكمل كل بر وكان طعامه أن يعمل مشيئة الآب. بسقوطنا فسدت صورة الله في الإنسان. فتأنس الله وبتأنسه جاءت الصورة الأصلية والرسام. فرسم الطبيعة البشرية المفدية وكساها بمجد وبهاء وبر. وهكذا وقف المسيح نائبا عن البشرية أمام الله وصار آدم الثاني الذي سر قلب الآب. وأرضى الإله الذي أعلن غضبه على البشرية. وحصلنا على بر المسيح بالإيمان به. وهكذا صارت أعمال المسيح الصالحة مُلكا لكل من يؤمن به ويقبله نائبا عنه أمام الله الآب.

رابعا، التجسد ضروري حتى يكون المسيح مثالنا (يوحنا 13). الطفل يحتاج إلى أم قائدة تعلمه الحياة وإلى آب يعلمه ويحتاج إلى معلمة ومعلم في المدرسة ونحتاج إلى قائد في الطب والهندسة والسياسة. ولكننا نحتاج أكثر من كل هذا إلى قائد روحي يقودنا إلى الله ويكون مثالا لنا في كل شيء. ولن نجد هذا القائد المثالي الكامل إلا في المسيح. فالله المتأنس هو النموذج الكامل للإنسان الذي يرضي الله. لنفكر مثله ونشعر مثله ونحيا مثله. قال السيد المسيح: تعلموا منى لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم (مت 11: 29). وقال أيضا: "لأني أعطيتكم مثالا حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضا" (يوحنا 13: 5). وقال الرسول بطرس عن السيد المسيح: "تاركا لنا مثالا لكي تتبعوا خطواته" (1 بط 2: 21). وأضاف الرسول يوحنا: "من قال أنه ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك يسلك هو أيضا" (1 يوحنا 2: 6). تأنس الله ضروري لاعطائنا فهما صحيحا عن الطهارة والبر. لا نستطيع أن نتعلم السياقة بالكتب بل يجب أن نجرب فيساعدنا المرشد على السياقة السليمة. ولا نستطيع أن نتعلم التقوى بالقراءة فحسب بل يجب أن تتجسد رسالة الله ويُولد المسيح. هو الخبر السار وهو الإنجيل.

خامسا، التجسد ضروري للتعرف على الله. الله غير مرئي وغير ملموس ولا يستطيع أحد أن يقتـرب من الله القدوس. الله لم يره أحد قط ولكن الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبر. وسأل فيلبس المسيح قائلا: ارنا الآب وكفانا. فأجابه السيد المسيح: من رآني فقد رأى الأب. وبالأجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد. نحن لا نستطيع أن نعرف الله بقدراتنا وامكانياتنا وحواسنا ولكنه يستطيع أن يظهر لنا ويستطيع أن يُعلن نفسه لنا. وهكذا اختار الله أن يصير واحدا منا. فكما قال متى المسكين: عندما عجز الإنسان أن يحيا مع الله تنازل الله ليحيا مع الإنسان. فصار الله إنسان ووُلد المسيح لنعرف الله. قال الله: الإنسان لا يراني ويعيش (خر 33: 20). ولكن غير المرئي صار مرئيا وغيـر المحسوس صار ملموسا وغير المسموع صار مسموعا والغريب عنا صار واحدا منا.

فماذا نفعل في ضوء تأنس الله؟

لا يكفي أن نندهش أو أن نحتفل كما يحتفل الكثيرون من حولنا، بل يجب أن نعلن السيد المسيح فاديا لحياتنا وللكون ونصرح أمامه قائلين: اللهم ارحمني أنا الخاطئ. ويجب أن نتشوق إلى قدوم مملكة السماء على الأرض فنجدد التـزامنا الكامل بالعدالة والسلام والمحبة لاسيما في موسم الميلاد. ويجب أن نعترف أننا فشلنا وسنفشل بدون المسيح. وأن انتصارنا مضمونٌ في آدم الثاني. ولا يستطيع أحد آخر أن ينوب عنا أمام الله أو في المعركة ضد الشيطان. وهو النائب الفريد وليس له نظير. بره لنا عندما يؤمن به. ويجب أيضا أن نتمثل به في الفكر والسلوك ونتمسك بوصيته وارشاداته دون خلق الأعذار الكثيرة. وأخيرا، يدعونا الله أن نعرفه عندما ننظر إلى يسوع. فلنتأمل في طفل المغارة لنكتشف سر الوجود والغفران والمحبة والحياة الأبدية. كل عام وأنتم بخير.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع