• الإنجيليّون تاريخًا ولاهوتًا: نظرة معاصرة - القس د. منذر إسحق - - نحو ذهن متجدد
الإنجيليّون تاريخًا ولاهوتًا: نظرة معاصرة -  القس د. منذر إسحق - - نحو ذهن متجدد

مقتطفات* من مقال القس الدكتور منذر اسحق، العميد الاكاديمي لكلية بيت لحم للكتاب المقس وراعي كنية الميلاد اللوثرية في بيت لحم في كتاب "نحو ذهن متجدد" بعنوان "الإنجيليّون تاريخًا ولاهوتًا: نظرة معاصرة":

بدأنا هذا المقال بالسؤال: من هو الإنجيليّ، ونجيب هنا بالتشديد على أن الإنجيليّة ليست طائفة معيّنة بالضرورة، بل هي حركة مسيحية عابرة للكنائس. وهي ليست حكرًا على كنيسة دون أخرى. الإنجيليّة في جوهرها هي العيش والمناداة بإنجيل النعمة، والتمسّك بأساسيّات الإصلاح البروتستانتي. وبرغم تنوّع الحركة البروتستانتية الإنجيليّة وتفرعاتها، يبقى الجوهر والأساس هو إنجيل النعمة. 

في الوقت ذاته، على إنجيليّي المشرق التحلّي بالفكر الناقد والنقد الذاتي. فبينما نفتخر بإرثنا الإنجيليّ، علينا في ذات الوقت أن نُخضع كلّ شيء لعدسة النقد والتحليل، ونتحرّر بالكامل من الإرث الاستعماريّ والذي ارتبط بالحركات التبشيرية، فلا نتبنى صراعات وقضايا الكنيسة الغربية وكأنها صراعاتنا. ومن المهم التحرّر من عقليّة الاتكال على الغرب، ماليًّا وفكريًّا، بخلق لاهوتيين ومفكرين إنجيليّين فلسطينيين يطوّرون فكرًا لاهوتيًّا متجذّرًا في السياق العربي المشرقي والفلسطينيّ، وهكذا نعيشُ حقًّا وممارسةً "كهنوت جميع المؤمنين". لا أدعو إلى إنكار مساهمات الكنيسة الغربيّة، ونفتخر بإنجيليّتنا، ولكنّ إرثنا المُصلح يُحتّم علينا التحلّي بالفكر الناقد. فالإصلاح عمليّة مستمرّة، وليس لمرّة واحدة. والكنيسة المُصلحة ليست "قطعة أثرية من ترابٍ سحيق، ولا هي مؤسسة متحجرة بلا تغيير أو تبديل"، كما يقول الراهب، بل هي "كنيسة متطورة، تتفاعل مع كلّ زمان وكلّ مكان". 

هناك أمورٌ أتتنا من الغرب وأخذت الكنائس الإنجيليّة في الشرق موقفًا واضحًا منها، مثل الصهيونية المسيحية، من خلال الكتابات والمؤتمرات والمواقف الرسميّة،  لكن يجب في الوقت ذاته استئصال مخلفات هذا الفكر بالكامل من بعض الكنائس الإنجيليّة الحرّة في البلاد والمشرق.  وكذا الأمر فيما يتعلّق بأمور كثيرة نجدها في الكنائس في الغرب والتي يجب أن نفحصها كإنجيليّين مشرقيين، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر لاهوت الازدهار (Prosperity Gospel) والأصوليّة التكفيريّة، والانعزاليّة، والانفتاحيّة الجنسيّة، والتشديد على الاختبار على حساب العقل، وعلاقة العلم بالإيمان. 

ولا يتوقف الفكر الإنجيليّ المعاصر على رفض بعض القضايا، بل يجب التفكير على نحو إيجابي خلاق وفعال لتكوين فكر إنجيليّ مشرقيّ معاصر. واقترح هنا بعض مكونات هذا الفكر، لتكون مادة للحوار والنقاش. 


لاهوت إنجيليّ شمولي
يرتكز الفكر الإنجيليّ على الأخبار السارة في المسيح، وتحديدًا أنّ يسوع جاء إلى عالمنا ليفدي البشرية. أحد أهم المساهمات في الفكر واللاهوت الإنجيليّ هو الحرية التي لنا في المسيح. الله يقبلنا في المسيح ويحسبنا أبرارًا. وعلينا اليوم أن نوسّع فهمنا لعقيدة التبرير بالإيمان، القضية الأساسية والجوهرية في الإصلاح اللوثري. 

نحتاج إلى لاهوت إنجيليّ يخاطب التطرّف، التطرّف الداخلي والخارجي. إن مشرقنا العربيّ اليوم لهو في حاجة ماسة إلى ثقافة الإنجيل المستوحاة من عقيدة التبرير بالإيمان. فشرقنا تحكمه ثقافة الخوف من الله، بالإضافة إلى التفكير بمنطق " الحلال والحرام". وشرقنا أيضًا مليءٌ اليوم بثقافة القرون الوسطى حيث الفتاوي وتجاهل العقل والسيطرة على الخطاب الديني واحتكار الخلاص والإيمان. والكلّ يبحث عن رضى الله على حساب الآخرين، وهناك استعداد حتى للقتل باسم الله في سبيل المعتقد الصحيح. ما أحوجنا إلى رسالة الإنجيل المحرِّرة، وتحديدًا بأننا بأعمالنا لا يمكننا أبدًا أن ننال الغفران، بل فقط بالاتكال على رحمة الله ونعمته. 


وشرقنا العربيّ بحاجة ماسة إلى إنجيل النعمة وإلى الحريّة الإنجيليّة. فلا زلنا نعيش في عالم يصنّف البشر بين "مؤمن" و"كافر"؛ "منّا" و"منهم". ولا زالت الطائفية والتعصّب تمزّق أراضينا، والأبرياء من الأقليات هم أكثر من يدفع الثمن نتيجة هذه الحروب. لنعمل من أجل إصلاح شرقنا، فننادي كما نادى المصلحون بالحرية الدينية، ونعمل مع الذين يؤمنون بهذا من المجتمع المدني وجماعات حقوق الإنسان وحتى من القادة الدينيون المسلمون الذين يؤمنون بهذا.

وفي زمن الاستغلال السياسيّ والماديّ وتسخير اللاهوت لأغراض سياسية، لنستلهم من لوثر. ثورته لم تكن روحية بحتة، بل سياسية أيضًا. لوثر تحدى امبراطورية عصره، وخلق لاهوتًا بديلًا، تحريريًّا، يشدّد على كرامة الإنسان وكهنوته! 

 

* قدم موقع "تعال وانظر" رعاية مشتركة مع كلية بيت لحم للكتاب المقدس وكلية الناصرة الانجيلية لكتاب جديد مميز  يحمل الاسم "نحو  ذهن متجدد" – مساهمات فكرية انجيلية في السياق الفلسطيني. يقع الكتاب في 420 صفحة وسنقوم تباعًا بنشر مقتطفات وأجزاء من المقالات التي فيه في الموقع هنا. طبعًا نشجع القراء الرجوع للكتاب وقراءة المقالات بأكملها بتمعن وليس الاعتماد على المقتطفات التي ننشرها هنا التي تعطي صورة جزئية للغاية.
يمكن الحصول على الكتاب من احدى الجهات الراعية.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع