• قراءة إنجيل يوحنا بعيون مسيحية فلسطينية 2 - بقلم القس البروفيسور حنا كتناشو
قراءة إنجيل يوحنا بعيون مسيحية فلسطينية 2 -  بقلم القس البروفيسور حنا كتناشو

ذكرت في المقال الأول أننا كمسيحيين فلسطينيين أو كيهود مسيانيين جعلنا يسوع جزءا من الصراع بدلا من أن نجعله جزءا من الحل. حاول الكثيرون جعل يسوع يهوديا أو فلسطينيا لتحقيق مكاسب سياسية أو أيديولوجية فلم يدققوا في تعريف يسوع المسيح بحسب المجامع المسكونية لاسيما مجمع خلقيدونية سنة 451 ميلادي.[1] أعلن المجمع أن يسوع المسيح كامل في لاهوته وأيضا في ناسوته. هو الله 100% وهو إنسان 100%. له نفس جوهر الآب في لاهوته ونفس جوهر البشر في ناسوته ولكنه بدون خطيئة. هو مولود من الآب قبل كل الدهور بحسب اللاهوت ومولود من العذراء مريم أم الله بحسب الناسوت.[2] له طبيعتان بلا اختلاط ولا تحوّل ولا انقسام ولا انفصال.[3] تحتفظ كل طبيعة بخاصيتها في شخص واحد لا يتجزأ إلى شخصين. هذا هو المسيح الخلقيدوني الذي يجسّد الإنسانية جمعاء ولا يميّز بين الشعوب.[4]

ابتعد كثيرون عن المسيح الخلقيدوني. وبدلاً من ذلك يقدمون مسيحيا إقصائيا، فيهملون التعريف الخلقيدوني أن المسيح إنسان كامل وأن إنسانيته تمثّل جميع الشعوب سواء أكانوا فلسطينيين أم يهودا. التعريف الخلقيدوني ذو إسهامات لا غنى عنها في فهم هوية يسوع. بالرغم من ذلك، لا تعالج العبارات الخلقيدونية العلاقة بين إنسانية المسيح التي تشمل الجميع وإثنيته الخاصة. ولا تسلط الضوء على المسيح بوصفه صانع سلام ليس فقط بين الإنسانية والله ولكن أيضا بين اليهود وغيرهم من الأمم. ولا يوضّح مجمع خلقيدونية مفهوم يهودية يسوع. ولهذا أجد أن الحاجة واضحة إلى دراسة يسوع المسيح بطريقة تتجاوز التعابير الخلقيدونية، ويستطيع الكتاب المقدس بلا شك أن يغني فهمنا للتقليد اللاهوتي لشخص المسيح وعمله ويساعدنا على التركيز على الأمور التي لم تُعالج من قبل، وبناءًا على ذلك أقترح قراءة الرواية الكتابية ليسوع الناصري متسائلين: كيف يستطيع يسوع اليهودي المولود في فلسطين والإنسان الكامل أن يكون صانع سلام ومحرراً؟ وكيف يستطيع أن يمثّل الفلسطينيين واليهود بوصفه الخادم المتواضع والذي كابد المعاناة إلى جانب كونه المسيح القائم من الموت؟ وكيف يستطيع إنجيل يوحنا أن يُظهر المسيح إنساناً كاملاً في سياق النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وفي زمن تشوهت فيه الإنسانية؟ إن إنجيل يوحنا مساحة مثمرة للتأمل في اللاهوت اليوحناوي المرتبط بالمسيح.[5]

              بكلمات أخرى، الإقصائية المتجذرة في الرؤى الوطنية والإثنية والسياسية لهوية المسيح تختلف عن المسيح المعروض في إنجيل يوحنا الذي يقدم شمولية مركزها السيد المسيح. ويتحدى يوحنا اليهودية الفريّسية الإقصائية بواسطة ربط عناصرها الرئيسية بالمسيح الشمولي. ويقدم الرسول يوحنا مسيحا شموليا بواسطة إعادة قراءة مكونات اليهودية الفريسية في ضوء مركزية يسوع المسيح. فيفحص علاقة المسيح مع يعقوب (يوحنا 4: 12) وموسى (يوحنا 6: 12؛ 9: 28) وإبراهيم (يوحنا 8: 53). ويفحص علاقة المسيح مع عادات التطهير (يوحنا 2: 1 – 11) والمكان المقدس (يوحنا 2: 18 – 22؛ 4: 20 – 24) والزمان المقدس، إذ يعمل المسيح يوم السبت (يوحنا 5: 16؛ 9: 16). ويفحص أيضا علاقة المسيح مع التاريخ المقدس المرتبط مع موسى (يوحنا 6: 1 – 8: 29) والجماعة المقدسة المرتبطة مع إبراهيم (يوحنا 8: 30 – 59) والأرض المقدسة (يوحنا 10: 1 – 21). وهكذا يقدم الرسول يوحنا نظاما عالميا جديدا يبدأ بالتجسد وينتهي بالقيامة. وفي طيات هذا النظام وتعاريجه نجد مركزية المسيح وشموليته. وسأناقش في الفقرات الآتية "البداية الجديدة" في إنجيل يوحنا، ثم المكان المقدس والزمن المقدس والتاريخ المقدس والجماعة المقدسة والأرض المقدسة. وهذه العناصر ليست فقط مهمة في إنجيل يوحنا ولكنها أيضا أساسية في اليهودية الفريسية. وتفسير الرسول يوحنا لها مهمٌ لنا اليوم لأنه يعيننا أن نفهم العهد القديم من منظور المسيح ولأنه يحارب التهويد العنصري أو أي عنصرية أخرى وينشر يهودية المسيح الشمولية التي تجسّدت في  المسيحية. وتلخص القائمة أدناه الصورة الكبيرة في إنجيل يوحنا.

يوحنا 1 تجسد المسيح ونظام عالمي جديد
يوحنا 2: 1 – 11

 

إعادة تعريف مفهوم التطهير في ضوء العلاقة مع يسوع
يوحنا 2 – 4 إعادة تعريف المكان المقدس في ضوء العلاقة مع يسوع
يوحنا 5 إعادة تعريف مفهوم السبت في ضوء العلاقة مع يسوع
يوحنا 6 – 8 إعادة تعريف التاريخ المقدس المرتبط مع موسى في ضوء العلاقة مع يسوع
يوحنا 8 إعادة تعريف العلاقة مع إبراهيم في ضوء العلاقة مع يسوع
يوحنا 9 الصراع بين أتباع يسوع وأتباع موسى الذين يرفضون يسوع الناصري
يوحنا 10 إعادة تعريف الأرض المقدسة في ضوء العلاقة مع يسوع
يوحنا 11- 12 إعادة تعريف الحياة في ضوء موت وقيامة يسوع

وكما يبدأ كتاب الآيات (يوحنا 1 – 12) بالتجسد وينتهي بموت المسيح وقيامته، يبدأ كتاب المجد (يوحنا 13 – 21) بتنازل المسيح كخادم دلالة على تجسده (يوحنا 13) وينتهي بموته وقيامته (يوحنا 18 – 21). ونجد هوية جماعة المسيح بالطريقة التالية:

يوحنا 13 14 + 16 15 – 16 15         17 18 – 19 20 - 21
جماعة المحبة جماعة الروح الجماعة المضطهدة جماعة الكرمة جماعة الوحدة جماعة الصليب جماعة القيامة

وسأناقش كل بند من بنود القائمتين أعلاه في مقالات سأنشرها في المستقبل القريب.

[1]  جون لوريمر، تاريخ الكنيسة: الجزء الثالث (القاهرة: دار الثقافة، 1988)، 228 – 229.

[2] للمزيد من الشرح حول دور ومكانة مريم العذراء ومفهوم المصطلح "أم الله" أو ثيوتوكوس، راجع يوحنا ودينا كتناشو، اطلقوني: دور ومكانة المرأة في المسيحية (القدس: كنيسة الاتحاد المسيحي، 2002)، 43 – 53.

[3] رفضت الأرثوذكسية الشرقية (الممثلة اليوم بالأقباط والسريان والأحباش والأرمن الأرثوذكس وغيـرهم) مجمع خلقيدونية. قبلت هذه الكنائس أن المسيح إلهٌ كامل وإنسانٌ كامل وأنه شخص واحد، أما الجملة التي تقول: "للمسيح طبيعتان" فرفضتها. ومن الخطأ أن ندعوهم أصحاب الطبيعة الواحدة أو المونوفيزيين (Monophysites) إذ أن المونوفيزية بدعة قبلت ألوهية المسيح ورفضت ناسوتة. فإن أردنا وصفا دقيقا نستخدم مصطلح (Miaphysites)  أي أن طبيعة المسيح الواحدة  كاملة في ناسوتها ولاهوتها بدون اختلاط ولا تحوّل ولا انقسام ولا انفصال. ولهذا يبدو لي أن المسيحية الخلقدونية واللاخلقيدونية متفقتان في المضمون بالرغم من اختلافهما في التعبير. وهذا ما أكده البطريرك السرياني مار أغناطيوس زكا الأول عيواص في بيانه المشترك مع البابا يوحنا بولس الثاني سنة 1984. لقراءة الإعلان كاملا، راجع الموقع الألكتروني التالي:

http://www.prounione.urbe.it/dia-int/oo-rc_syrindia/doc/i_oo-rc_syrindia_1984.html

 [4] Mark Nestlehutt, “Chalcedonian Christology: Modern Criticism and Contemporary Ecumenism,” Journal of Ecumenical Studies 35 (1998): 175–196; James Moulder, “Is a Chalcedonian Christology Coherent,” Modern Theology 2 (1986): 285–307; Frances Young, “The Council of Chalcedon 1550 Years Later,” Touchstone 19 (2001): 5–14.

[5] لقد كتبت باللغة الإنكليزية عن لاهوت إنجيل يوحنا من منظور فلسطيني فاكتشفت أن المجال واسع ويحتاج للتطوير. للمزيد من المعلومات راجع:

Yohanna Katanacho, “Reading the Gospel of John through Palestinian Eyes,” Pages 103-122 in Jesus without Borders: Christology in Global Context; edited by Gene Green, Stephen Pardue, and K.K. Yeo; Grand Rapids: Eerdmans, 2014.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع