• بداية جديدة – قراءة إنجيل يوحنا بعيون مسيحية فلسطينية 3 - بقلم القس البروفيسور حنا كتناشو
بداية جديدة –  قراءة إنجيل يوحنا بعيون مسيحية فلسطينية 3 - بقلم القس البروفيسور حنا كتناشو

بعد أن أعطينا في المقالين الأول والثاني موجزا سريعا للإنجيل نستطيع الآن أن نسهب في شرح بعض التفاصيل المهمة. وسنشرح النظام العالمي الجديد الذي حلّ بمجيء السيد المسيح. إنه العصر المسياني.[1] ولا يبدأ النظام الجديد من العدم بل هو تحقيق لأحلام وأشواق العهد القديم. وهو الزمن الذي انتظره الأنبياء والعصر الداودي أو المسياني الذي تتحقق فيه المواعيد ويختبـر فيه البشر الحرية والفرح والنِعم الإلهية وانتهاء السبي (حزقيال 34: 23؛  37: 24). هو الزمن الإلهي الذي يُعلن فيه "مجد الرب ويراه كل بشر" (أشعياء 40: 5). وهو ملء الزمان الذي يبصر فيه الشعب السالك في الظلمة نورا عظيما (أشعياء 9: 2). وهو الوقت الذي يقيم فيه إله السماوات مملكة لن تنقرض أبدا (دانيال 2: 44). وبالنسبة لنا كمسيحيين، هذا هو العصر المسياني الذي بزغ فجره في مجيء ربنا يسوع المسيح. ويشرح لنا الرسول يوحنا عن هذا العصر بأسلوبه المميـز. ويستهلّ الرسولُ المحبوبُ حديثه بإعلان البداية الجديدة. فلنتأمل معا في هذا الأمر لاسيما أن بعض اللاهوتيين اخطأوا حين اعتقدوا أن قسما من مواعيد العهد القديم تتحقق في دولة إسرائيل الحالية وليس في المسيح.[2]

يتفق فقهاء الكتاب المقدس أن بداية إنجيل يوحنا تشبه الفصل الأول من سفر التكوين.[3] يبدأ السفران بشبه جملة "في البدء". يقول سفر التكوين: في البدء خلق الله السموات والأرض. ونجد في إنجيل يوحنا: "في البدء كان الكلمة". ويصف سفر التكوين دور كلمة الله المنطوقة في خلق العالم وكل ما فيه. ويتحدث السفر أيضا عن الحياة والنور. وتتكرر هذه المواضيع في إنجيل يوحنا الذي يذكر الحياة والنور ويربطهما بالكلمة المتأنسة. ويجادل بعض المفسرين أن التشابه بين السفرين يشمل أيضا الأيام السبعة. فنجد في سفر التكوين أن الله خلق الدنيا وما فيها في ستة أيام واستراح في اليوم السابع. وفي إنجيل يوحنا نجد أن يهود أورشليم يسألون يوحنا المعمدان عن هويته في اليوم الأول (يوحنا 1: 19 – 28). ثم تتكرر شبه الجملة "في الغد" في اليوم الثاني (يوحنا 1: 29) والثالث (يوحنا 1: 35 – 42) والرابع (يوحنا 1: 43)، فيصبح المجموع أربعة أيام. ويضيف النص أنه كان عرس في اليوم الثالث (يوحنا 2: 1). فمن المحتمل الاستمرار بتسلسل الأيام فيكون الحديث عن اليوم الثالث من آخر يوم ذُكر، أي اليوم السابع (4 + 3= 7).[4] وإن كان هذا الأمر مقصودا فعندئذ يزداد التشابه مع سفر التكوين. ونتوقع أن نجد الراحة في آية قانا الجليل. وهذا أمر سنشرحه لاحقا.

مهما كان موقفنا من تسلسل الأيام المذكوره أعلاه، لا نستطيع تجاهل المرحلة الجديدة التي يقدمها إنجيل يوحنا.  فهو يعلن أن الله تأنس في رحم القديسة مريم العذراء فصار بشرا وسكن بيننا. وأفضّل استخدام كلمة تأنس بدلا من كلمة تجسّد إذ تشدد الأولى على أن يسوع صار إنسانا بينما تدلّ الثانية على أنه أخذ جسدا. والتأنس أوسع من التجسّد. فالإنسان روح ونفس وجسد. وهكذا نرى أن الإله الذي لا يُرى صار مرئيا (يوحنا 1: 18) والقدوس الذي لا يَقترب أحد منه صار واحدا منا (يوحنا 1: 14). إله الكون صار مواطنا في بلدة آنذاك ضئيلة الشأن مما يدلّ على تواضع الله. وتأنس الله في رحم عذراء من الناصرة التي عدد سكانها أقل من 480 إنسانا.[5] وصار الأقنوم الثاني بشرا ولمسناه ورأيناه وسمعناه ورأينا مجده. وبفضل حضور الله الإبن رأينا الآب (يوحنا 14: 9) ورأينا الروح (يوحنا 1: 32 – 33). وظهر الروح القدس واستقر على السيد المسيح. نزل الابن بتجسده ونزل الروح بمعمودية الابن وانفتحت السماوات وصارت ملائكة الله تصعد وتنزل (يوحنا 1: 51).

 

وبالرغم من أن التأنس محوري في الإصحاح الأول فإنه ليس وحده الذي يحدد البداية الجديدة إذ بعدما دخل الابن العالم وظهر الروح القدس بات في مقدور التلاميذ أن يروا السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على يسوع المسيح (يوحنا 1: 51). وهذا المشهد الملائكي مصحوبٌ بجملة يقولها السيد المسيح عن نثنائيل: "هوذا إسرائيلي حقا لا غِش فيه" (يوحنا 1: 47). ظهور المصطلح "إسرائيل" وصعود الملائكة ونزولها يربطنا بقصة يعقوب في سفر التكوين. فلنمخر في عُباب هذه القصة الآن.

 

غشّ يعقوب أخاه البكر عيسو عندما تقمّص شخصيته أمام والدهما اسحاق الذي فقد بصره. وخدع يعقوب أباه طالبا بركة عيسو. فحقد عيسو على أخيه وأراد قتله. فهرب يعقوب. وعندما تعب اضطجع في بيت إيل لينام (تكوين 28: 10 – 22). فرأى حُلما، وإذا سلم منصوبة على الأرض ورأسها يمسّ السماء. وهوذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها. وهوذا الرب واقف. ارتبط الحُلم بالوعد الإبراهيمي، أي وعد البركة ووعد الأرض ووعد العناية الإلهية. ففي الحُلم سمع يعقوب صوت الله قائلا: "أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق. الأرض التي أنت مضطجع عليها أعطها لك ولنسلك. ويكون نسلك كتراب الأرض، وتمتد غربا وشرقا وشمالا وجنوبا، ويتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الأرض، وها أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب" (تكوين 28: 13 – 15). وعندما استيقظ يعقوب دعا المكان ببيت الله وبباب السماء.

 

تشكّل هذه القصة خلفية مهمة لفهم حوار يسوع مع نثنائيل. فتشابه القصتين بالمفردات والأحداث ملفتٌ للنظر. لقد عُرف يعقوب بالغشاس والمخادع في أكثر من قصة في العهد القديم. وعندما أراد إسحاق أن يشرح لعيسو ما فعله يعقوب، قال له: جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك. فقال عيسو: ألا إن اسمه دُعي يعقوب فقد تعقبني الآن مرتين! أخذ بكوريتي، وهوذا الآن قد أخذ بركتي (تكوين 27: 35 – 36). والبكورية هي حق الابن البكر في قيادة العائلة أو القبيلة بعد موت أبيه وحقه أيضا في أخذ نصيب اثنين من الميراث. علاوة على ما سبق، كان البكر كاهن الأسرة الذي يقف أمام الله نيابةً عن عائلته وأمام عائلته نيابة عن الله.[6]  أخذ يعقوب بكورية عيسو بالغش. وارتبط اسم يعقوب بالتعقب والغش. بالرغم من ذلك، أنعم الله عليه ببركته.

 

يوظف يسوع هذه القصة ويشير بها إلى نفسه في بيئة القرن الأول. فبدلا من أن تكون بيت إيل هي بيت الله نجد أن المسيح هو بيت الله. وبدلا من يعقوب الغشاش نقابل نثنائيل الذي لا غش فيه. وبدلا من الحديث عن تتميم الوعد الإبراهيمي عن طريق يعقوب نجد أن يسوع هو ملك إسرائيل. وبكلمات أخرى، ظهر ملك إسرائيل وسينشئ ملكوت الله على الأرض ثم تُنهي كلمتا "من الآن" (يوحنا 1: 51) الإصحاح الذي يبدأ بشبه الجملة "في البدء" (انجيل يوحنا 1: 1). ففي ظل عمل المسيح انفتح الباب إلى عالم جديد ونظام عالمي ترتبط فيه السماء بالأرض. فالسماء مفتوحة من خلال الله المتأنس، وأسرار الآب كشف عنها الابن. فهو الوحيد الذي يخبر عن الآب بصحة تامة. يقول النص: "الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر" (يوحنا 1: 18). والكلمة "خبّر" التي استخدمها يوحنا تعني الإخبار بدقة أو إعطاء وصف أو تقرير مفصّل. ويعرض يوحنا هذا الوصف من خلال آيات تشير إلى يسوع المسيح. وثمة سبع آيات في كتاب الآيات (يوحنا 1 – 12).[7] ومن الضروري التمييز بين معجزة وعجيبة وقوات وآية. المعجزة هي ما يعجز الإنسان عن صنعه. العجيبة هي ما نتعجب منه. والقوات هي ما تحتاج إلى قوة فوطبيعية، أما الآية فهي إشارة أو علامة تدل وتؤشر إلى حقيقة أخرى. ويرتبط مدلول الآيات ببزوغ العصر الداودي وبهوية يسوع المسيح والإيمان به (يوحنا 20: 31). ففيه تتحقق مواعيد وأحلام العهد القديم المتعلقة بملكوت الله. فهو ملك إسرائيل.  وفي المقال القادم سنكمل حديثنا عن البداية الجديدة إذ سنشرح بالتفصيل أول آيات المسيح، أي تحويل الماء إلى نبيذ في عرس قانا الجليل.

 

 

[1] للمزيد من المعلومات عن تطلعات العهد القديم وأشواقه لمجيء العصر المسياني، راجع المرجع الآتي:           

Anthony Hoekema, The Bible and the Future (Grand Rapids: Eerdmans, 1994).

[2]  عارضت هذا اللاهوت في كتابي  أرض المسيح: صرخة فلسطينية (بيت لحم: كلية بيت لحم للكتاب المقدس، 2016).

[3] George Beasley-Murray, John (n.p., on CD-ROM. Logos Research System, 2004. Print ed.: WBC 36; Dallas: Word, 2002), 10; H.D.M. Spence-Jones, The Pulpit Commentary: St.John (n.p. on CD-ROM. Logos Research System, 2004; New York: Funk & Wagnalls, 2004).

[4] D.A. Carson, The Gospel According to John (Grand Rapids: Eerdmans, 1991), 168; Stephen Kim, “The Relationship of John 1:19–51 to the Book of Signs in John 2–12,” Bibliotheca Sacra165 (2008):323–337.

[5] James Strange, “Nazareth,” ABD 4, 1050.                                                                                                 

[6] Anne Davis, “Israel’s Inheritance: Birthright of the First Born,” Chafer Seminary Journal 13 (2008): 79.

[7] C. H. Dodd, The Interpretation of the Fourth Gospel (Cambridge: Cambridge University Press, 1953), x.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع