• نشيد الأنشاد: الجنس مشكلة أم بركة؟ بقلم القس الدكتور حنا كتناشو

مقدمة

عنوان السفر هو نشيد الأنشاد والمقصود هو أفضل الأنشاد وأجودها. وعندما نقرأ سفر نشيد الأنشاد نستغرب من غياب الأشياء التي نتوقعها في كتاب ديني. نتوقع أن نسمع عن الله وصفاته وأعماله. نتوقع أن نسمع عن خلاص الأبرار ودينونة الأشرار. نتوقع أن نسمع عن شريعة موسى أو العهد الابراهيمي. ولكن هذه الأشياء غيـر موجودة في نشيد الأنشاد إلا إذا كانت مطوية في رموز غامضة. إضافة إلى ذلك، يستغرب القارئ من ظهور لغة جنسية في سفر مقدس. فعلى سبيل المثال، يقول السفر:  "قامتك هذه شبيهة بالنخلة، وثدياك بالعناقيد. قلت: إني أصعد إلى النخلة، وأمسك بعذوقها. وتكون ثدياك كعناقيد الكرم" (نش 7: 7 – 8). أبرزت هذه التحديات الحاجة إلى تفسير السفر. وهكذا نجد في القرن السادس عشر أكثـر من مئة كتاب تفسير لنشيد الأنشاد بينما نجد حفنة قليلة من تفاسير الكتب الأخرى.  

 

تفسير السفر

            لو وجدنا السفر في إحدى المخطوطات البابلية أو المصرية فلن نتـردد بتفسيره تفسيرا حرفيا كقصيدة حب. كشعر يشاركه عنتـرة لعبلة وقيس للبنى أو روميو لجولييت. ولكن نشيد الأنشاد هو ضمن الأسفار الدينية. فهل يؤثر هذا الأمر على تفسيره؟ يبدو كذلك. تخبرنا إحدى قصص التلمود أن بعض اليهود في القرن الأول كانوا يغنون سفر نشيد الأنشاد ويرقصون ويشربون النبيذ. فغضب المعلم عقيبا. وقال: "كل الأسفار مقدسة، أما نشيد الأنشاد فهو قدس الأقداس" وفسره تفسيرا رمزيا عن علاقة حب الله لإسرائيل. تفتـرض هذا القصة التلمودية أن التفسيرين الرمزي والحرفي تواجدا عند اليهود في القرن الأول. فعلى سبيل المثال، وجد الباحثون مخطوطات لنشيد الأنشاد في قمران عند قوم اختاروا عدم الزواج، فلماذا يحتفظون هؤلاء القوم في خزانتهم الدينية بسفر عن الزواج إلا إذا كانوا يفسرونه بطريقة رمزية؟

            ونجد التفسير الرمزي أيضا في مخطوطات الترجوم الآرامية. ولقد فسر الآباء المسيحيون الأوائل سفر نشيد الأنشاد تفسيرا رمزيا إذ يتحدث السفر عن المسيح وكنيسته. ودعموا تفسيرهم الرمزي من الأسفار القانونية الأخرى. أولا، يتحدث هوشع وأنبياء آخرون عن الزواج كتعبيـر عن العلاقة بين الله وشعبه. ويقول أشعياء عن صهيون: "لأنه كما يتزوج الشاب عذراء، يتزوجك بنوك. وكفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك" (أش 62: 5). ثانيا، يقتبس سفر العبـرانيين قصيدة الحب المدونة في مزمور 45 ليتحدث عن المسيح (راجع عب 1: 8). ثالثا، وصف العهد الجديد المسيح بالعريس وكنيسته بالعروس في أكثـر من مكان، انظر على سبيل المثال أفسس 5: 24 – 33. ولقد ساد هذا التوجه منذ القرون المسيحية الأولى حتى القرن السابع عشر. ثم بدأ يضعف في الدوائر الأكاديمية تدريجيا بسبب التأكيد على الدراسة العلمية للكتاب المقدس. وفي القرنين التاسع عشر والعشرين أكد الباحثون على أهمية التصنيف الأدبي لنشيد الأنشاد. فقال البعض (Ewald; Driver) أن السفر هو دراما لثلاث شخصيات: سليمان زير النساء والراعي وشولميت. يريد سليمان أن يسلب شولميت من حبيبها الراعي ولكنها تتمسك بحبيبها بالرغم من اغراءات الملك. ومن هذا المنظور هدف السفر هو تشجيع الأمانة في وجه الاغراءات والضغوطات. فقد نواجه اغراءات الآلهة الباطلة وضغوطات السلطات الحاكمة. وفي القرن الواحد والعشرين وبسبب اكتشافات مخطوطات مصرية قريبة من زمن سليمان اقتنع الباحثون (Murphy; Longman; Keel) أن نشيد الأنشاد هو عدة قصائد حب وليس قصيدة واحدة أو دراما متواصلة في عدة مشاهد. وأكدوا أن نشيد الأنشاد يتحدث عن حب بين رجل وامرأة.

            فكيف إذا نفسر النصوص التي تتحدث عن الجنس في كتاب ديني؟ أولا، قد نستغرب من هذا الربط في القرن الواحد والعشرين ولكننا يجب أن نفحص الارتباط بين الجنس والدين أو العبادة في الحضارات القديمة. عندئذ ندرك أن الربط بين الجنس والعبادة هو أمر شائع في ديانات الشعوب القديمة. فلقد انتشر زنى العبادة عند السومريين والبابليين والحثيين واليونانيين وشعوب أخرى. وهو أمر يتكرر عبر صفحات العهد القديم. فعندما جاء بنو اسرائيل إلى أرض كنعان وجدوا أن سكانها يعبدون البعل. آمن الكنعانيون أن بعل هو إله الشتاء الذي يزود المطر ويعطيهم الخصب. واعتقدوا أن بعل حارب "موت" إله الصيف وخسر المعركة. قضى إله الصيف المعروف ب-"موت" على بعل. فاضطرت عشتاروت إلهة الحب أن تقيم بعل من الأموات وهكذا انتصر بعل على "موت". ففرح الشعب أن بعلَ حيٌ فهو الذي يعطي الخصب للأرض وهو بمثابة زوج الأرض. وبُنيت المعابد لبعل وكانت معابده مليئة بالعابدات اللواتي كرسن أنفسهن للزنى "المقدس" لكي يعبدوا بعل ويبينوا قدرته على إعطاء الخصب. فالقوة الإلهية تنتقل بالزنى المقدس فيظهر ثمرها بالولادة. المقصود بالزنى المقدس أي العلاقة الجنسية المخصصة للعبادة الوثنية. وهو يُدعى مقدس لأنه منفصل عن الممارسات الاعتيادية ومخصص لعبادة الآلهة. وهكذا كانت ممارسة الجنس جزءا من العبادة.  

ثانيا، يقدم نشيد الأنشاد مفهوما عن الجنس في إطار الاعتراف بإله واحد خالق الكل. ويقدم مفهوما عن الجنس لجمهور اكتشف قوة الجنس في نشر الضلال ونشر عبادة الأصنام. فمن منظور نشيد الأنشاد لا يتعلق الجنس بصراع الآلهة وبإعادة الخصوبة ضمن الزنى المقدس. بل يرتبط الجنس بالمحبة بين رجل واحد وامرأة واحدة ويرتبط بالخليقة كما قصدها الله، إنها خليقة المحبة. وترتبط المحبة بالوفاء والأمانة والاحتفال العلني ومساهمة الأهل (نش 8: 5، 8). فالأم تشارك في الخطوبة وكذلك الأقارب.

            ثالثا، يجب أن نميـز بين الشهوة والجنس. الشهوة شر يجب الابتعاد عنه أما الجنس فهو بركة إلهية باركنا بها الله لتحقيق مقاصده. ولقد اعطانا الله الجنس بهدف التناسل (تك 1: 28؛ تث 7: 13 – 14). واعطانا الجنس بهدف تسديد الحاجات العاطفية والجسدية وتشجيعنا على الفرح المقدس في إطار الزواج. اعطانا الجنس لنعبـر عن الحب باعطاء أنفسنا بالكامل فنتحد مع من نحب بالجسد والنفس والروح. وهذا النوع من الاتحاد يعكس درسا في المحبة التي بدونها لن نعرف الله.

لقد تكاثر البشر بسبب الجنس. وجاء المخلص بسبب التناسل. والقدرة على الحب تحتاج إلى القدرة على التعبير عن هذا الحب. وفي إطار الزواج، التعبير عن الحب يشمل البعد الجسدي والجنسي وهو تعبير مقدس. ونجد الحب في بداية السفر ونهايته إذ نقرأ في بدايته: "لأن حبك أطيب من الخمر" (نش 1: 2) ونقرأ في نهايته "اهرب يا حبيبي" (نش 8: 14). وتريد الحبيبة أن تكون مع حبيبها فلذلك تقول: "أخبرني يا من تحبه نفسي، أين ترعى. . . ؟" (نش 1: 7).  وهي مريضة حبا (نش 2: 5). ويعبر الحبيب عن حبه لحبيبته فيقول: "ها أنت جميلة يا حبيبتي" (نش 1: 15). ولهذا نستطيع أن نقول أن السفر هو عن الحب والمحبة التي جعلها الله أساسا لنجاح العائلة. تعكس هذه المحبة طبيعة الله المُحب في بذلها لنفسها ووفائها وشغفها وغرامها. ويعكس عشق الغرام عشق الله لشعبه.  فقد نجد أكثر من طبقة من المعنى في النص. يتعلق المعنى التاريخي بعشق الغرام بين حبيبين ولكن السياق الديني للسفر يقترح ربط هذا العشق بعشق الله.

سأنهي مقالي بدعاء عن الجنس

يا رب لماذا خلقتني بقدرات جنسيــــــة؟              لماذا شكلتني وصوّرتني برغبات تناسلية؟

هل الجنس ضعـف وهمٌّ وخطيـــــــــــــــــة؟           هل العشق والغرام من آثام البشـــــــــــرية؟

هل روحي سجينة هرمونات أرضية؟                  هل هي مريضة بجسم له شهيـــــــــــــــــــــة؟

 

كلا، ليس عمل الله مشكلة وبليــــــــــة                 ليس الجنس هما وغما وخطية

الجنس بركة أرضية وربانيــــــــــــــــــــــــة                 الجنس لغة وضعها رب البرية

 

حروفها حب ومحبة غراميــــــــــــــــــــــــــة                فواصلها عطاء وتضحية سخيــــــــة

نقاطها تسديد الحاجات العاطفية                      وفقراتها تعبير عن رومانسيات خمرية

قوانينها وقواعدها خطة سرمديــــــة                  من نسل إبراهيم يأتي ملك الأبديــــــــــة

 

نشيد الأنشاد حكمة سليمانيـــــــــــــة                    قصيدة عشق في علاقة زوجيــــــــــــــــــــــــــة

العشق الإلهي بكــلمات بشريـــــــــــــــــــة              أحب شريكي مرآة لمحبة أزليـــــــــــــــــــــــــــــــــــة

ليس الجنس بلية وشهوة رديـــــــــة                    إنما هو نعمة وبركة إلهيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع