• كيف تساهم الطقوس الكنسية في تشكيل جماعات مرسَلة للسلام - د. رلى خوري منصور
كيف تساهم الطقوس الكنسية في تشكيل جماعات مرسَلة للسلام -  د. رلى خوري منصور

في مقالتي السابقة الجماعة المُرسَلة: ما بين الإرسالية العظمى والوصية العظمى ذكرت أن إرسالية الله الأساسية هي أن يبارك جميع الشعوب من خلال مجتمع الملكوت؛ مجتمع أخلاقي يعيش وفقًا لطريق الله في البر والعدل. كما وأن أعضاء هذا المجتمع دخلوا ملكوت الله بالتوبة والإيمان بالمسيح، ويعيشون في آن واحد كمجتمع متغيّر وكجماعة مُرسَلة لتكون ملح ونور في عالم ضال. من ميزات هذه الجماعة أن هويتها وإرسالية الله مرتبطتان ببعضهما البعض بشكل متكامل. فتجد الجماعة المرسَلة هويتها في يسوع المسيح وترى أن الإرسالية هي دافعها الأصلي ومبدأها التنظيمي. هي مختلفة عن مجتمعها وفي نفس الوقت ملتزمة به، فتأخذ القوة والدعم من خلال الوعظ والتعليم والصلاة والشركة لكي تقدم طريقة جديدة للحياة من خلال المسيح، فتنشر قيم مضادّة لقيم العالم من حولها لتكون بذلك ضمير للمجتمع وصوت نبويّ. تلتزم الجماعة المرسَلة بتحرير وخلاص مَن حولها مما يُلهم التغيير الاجتماعي، وكمؤشرة ورسولة للخليقة الجديدة، تظهر الجماعة المرسَلة في العالم الأرضي سمات العالم الآتي: البر والتحرير والفرح والعدل والسلام.

كيف تستطيع الجماعة المرسَلة أن تساهم في تحقيق سِمات ملكوت الله في عالمنا؟

لن أتطرق في هذه المقالة لكيفية تحقيق الجماعة المرسَلة لسمات الملكوت، وإنما سأركز على الموارد الكامنة لديها لتحقيق إرساليتها. سأقترح، أولاً، أن لدى الجماعة المرسَلة الموارد اللازمة لرعاية ودعم التغيير في المجتمع من خلال طقوسها (الليتورجيا) [1] التي: (أ) تعكس هوية الجماعة وتعزّز قيمها المشتركة، (ب) تشكّل وتغيّر الأفراد والجماعة من خلال طقوسها التي تعزّز التغيير المجتمعي، (ت) تساهم في تغيير البنية الاجتماعية من خلال تنشيط أو تغيير القيم الثقافية. ثانياً، إن ثراء الطقوس الجماعية المتواجدة لدى الجماعة المرسَلة تمكنّها من رعاية مبادرات السلام وذلك من خلال تشكيل جماعات من صانعي السلام والغافرين والساعين للعدالة.

فكيف تمكّننا الطقوس من تشكيل جماعات صانعي سلام؟

الطقوس:

الطقوس هي مجموعة من الإجراءات التي تؤديها الجماعة والتي تُقام أساسًا لقيمتها الرمزية، ويحدّد تلك الطقوس تراث الجماعة المشتركة. تحافظ الطقوس على حياتنا متماسكة، سواء كانت وجبة بسيطة أو مناسبة دينية أو وطنية. الطقوس تربطنا بالماضي، وتضع حاضرنا في سياقه وتوجه الطريق إلى المستقبل. من خلالها نحتفل كأفراد وجماعة بمن نحن من خلال الرموز والكلمات والحركات. في الطقوس، نتذكر قصتنا ونعبّر عن إيماننا بأنفسنا وعن أسرار الحياة حتى نتمكن من العيش بمعنى وتماسك اجتماعي. تستخدم المجتمعات الطقوس والموسيقى والأغاني والرموز للتعبير عن قيمها الروحية، مثل الحب والتعاطف والكرامة والاستقامة والرحمة. هذه القيم المشتركة تعيش بروح المجتمع لأجيال. هنالك 3 وظائف للطقوس (وهي تعكس أيضًا ميزات الجماعة - الشركة والمساءلة والمشاركة - التي شرحتها في مقالتي السابقة):

أولاً، تعكس الطقوس هويتنا وتعزّز قيمنا المجتمعية. فنتذكر قصتنا وتراثنا ونعبّر عن قيمنا ومعتقداتنا من أجل العيش بمعنى وكرامة وتماسك اجتماعي. تعبّر الطقوس عن الوعي الجماعي للمجتمع، فتعزز المشاركة في الطقوس التوافق مع القيم الجماعية، مثل التسامح والكرامة والسلام. فمثلاً، الصلحة العربية، التي تهدف لإيقاف العنف، تشمل طقوس لاسترداد الكرامة وتشجيع التسامح من أجل تهدئة التوتر ومنع الانتقام. ولأن الكرامة هي قيمة هامة في مجتمعنا الشرقي فهذه الطقوس إذًا تعكس وتعزز قيمة الكرامة في مجتمعنا.

ثانياً، تغيّر الطقوس الأفراد والجماعة من خلال الممارسات التي تعزز التغيير المجتمعي. ككائنات اجتماعية، غالبًا ما تردّد اختياراتنا ورغباتنا اختيارات المجتمع والثقافة التي ننتمي إليها. فمثلاً، عندما تصبح مجتمعاتنا مغرمة بالتقاضي وتردّد شعارات مثل "الأسى لا ينتسى" أو "لن أنسى ولن أغفر"، تضعف قدرة الأفراد على المصالحة. نحن إذاً بحاجة إلى مجتمعات تقدّر وتعي ضرورة رعاية قيم المصالحة والغفران والعدل. فيتجلّى هنا دور الطقوس في تحفيزنا للقيام بما يجب علينا القيام به. كيف تحفّزنا الطقوس؟ نحن كبشر، نميل إلى ممارسة ما نحب القيام به وليس ما يجب علينا القيام به. فعلى سبيل المثال، كمسيحيين نعلم أنه يجب علينا ممارسة الغفران ولكننا نتصارع في هذا الأمر. ومن هنا فإن الطقوس تحفّزنا كجماعة أن نقدّر ونقيّم الغفران ليصبح قيمة هامة، ومن خلال هذه الطقوس المتكررة نتعلم أن نحب الغفران ليصبح عادة نميل إلى ممارستها، بالرغم من صعوبتها، لكونها قيمة هامة لدينا.

ثالثًا، تساهم الطقوس في تغيير الهياكل الاجتماعية وتشكيل القيم الثقافية. لا تعكس الطقوس النظام الاجتماعي فحسب، بل يمكنها أيضًا أن تعمل كأداة في خلق القيم الثقافية وبالتالي تساهم في تغيير الهياكل الاجتماعية. نظرًا لأننا لسنا فقط نتاج ثقافتنا، بل مُنتِجين لثقافتنا، يمكننا من خلال الطقوس المُساهمة في بناء ثقافة تقدّر السلام والغفران والعدل. تعمل الطقوس كنوع من الحبكة التي لها تسلسل محدد، لأن الطقوس "تذهب بنا إلى مكان ما"، ولا تعود إلى حيث بدأت. وخلال ممارسة الطقوس، يفكر الأفراد والجماعة في هويتهم وقيمهم، فتعمل الطقوس كقنوات لتوجيه المشاعر والأفكار، وتعمل على تشكيل وتغيير التوجهات والقيم والمعتقدات، ومن هذه الطقوس الانعكاسية، قد يتولد التغيير الاجتماعي.

التحدي الذي يواجه الجماعة المرسَلة هو استخدام طقوسها بشكل خلاّق لتشكيل ثقافة تثني عن الانتقام وتعزز الغفران وتسعى للعدالة والسلام.

الطقوس الكنسية

يعتمد تشكيل جماعات من صانعي السلام والغافرين والساعين للعدالة على ثراء الطقوس (الليتورجيا) المتواجدة في الجماعة المسيحية مثل: العشاء الرباني وغسل الأرجل والتسبيح والعبادة والوعظ ودراسة الكتاب المقدس. هذه الطقوس الجماعية تمزج أعضاء جسد المسيح معًا ليشكّل فيهم الروح القدس كأفراد وكجماعة (أعمال الرسل 2: 42). فتعزز هذه الممارسات هويتنا في المسيح ونجدّد عهدنا مع الله والكنيسة (الشركة). وبينما تغيّرنا الطقوس على المستوى الفردي والجماعي، نتعلّم أن نطوّر نحن ممارسات وعادات تساعدنا أن نسلك في طريق الله ونتخلّى عما لا يرضيه (سفر ميخا 6: 8). ومن خلال تغيير قيمنا وتوجهاتنا، ستتغير طرقنا وممارساتنا أيضًا (المساءلة). وأخيراً، تخدم الطقوس غايات تحويليّة في تنشيط وخلق قيم وثقافة مضادّة لقيم العالم، لتمكّننا من ممارسة دورنا كضمير للمجتمع وصوت نبويّ يدين الشر معترفًا بالألم، ناشرًا لمحبة الله وغفرانه وخلاصه، وغالبًا الشر بالخير (انجيل متى 5: 13-16). عندئذٍ، تساهم الجماعة المرسَلة في إظهار سِمات الملكوت التي هي: البر والتحرير والفرح والعدل والسلام (المشاركة).

تلعب الليتورجيا أو الطقوس الكنسية المتكررة دورًا هاماً في المساهمة في تغيير الأفكار والمشاعر والمواقف والتوجهات. فعند تكرار الممارسات الكنسية، تعمل كلمة الله والروح القدس في العقول والقلوب لإعادة تشكيل الذاكرة والرغبات والمواقف وتوجيهها نحو الحق والرحمة والتوبة والغفران والشفاء والسلام، وبالتالي تساهم في التغيير. العشاء الرباني على سبيل المثال، هو طقس مثالي لتأكيد أهمية التوبة والغفران والسلام، لأنه يحتفل بمصالحة الله معنا كأساس للمصالحة البشرية. وتكمن أهمية تكرار الممارسات الكنسية في التحفيز على ممارسة التوبة والغفران، لأنها تركّز على محبة الله وغفرانه وتحريره حين نتذكر مرارًا وتكرارًا أننا متواضعون، تائبون، ودعاء، رحماء، انقياء القلب، أبرار وصانعي سلام (التطويبات- متى 5: 1-12) في كل مرة نكون في شركة معاً، قارئين للكلمة ومصلّين ومرنمين ومحتفلين.

سأقدم بعض الأمثلة عن مساهمة الطقوس في تمكين جماعات مرسَلة في إظهار سِمات الملكوت (من غفران وتحرير وشفاء) في سياقات مختلفة:

قصة "غفران الآميش الفوري" الذي أذهل العالم

في عام 2006 اندهش العالم من استجابة الغفران السريعة من قبل طائفة الآميش [2] المسيحية بعد حادثة إطلاق نار في إحدى مدارسهم بولاية بنسلفانيا التي أودت بحياة 5 فتيات. بعد أسبوعين من إطلاق النار، ظهرت قصة "غفران الآميش" في أكثر من نصف مليون موقع إلكتروني. لم يكن رد فعل الآميش على إطلاق النار هذا استثنائيًا، فقد كان غفرانهم للقاتل وإظهار الرحمة والتعاطف لعائلته تعبيراً فورياً عن إيمانهم وليس تفويضًا من كنيستهم. لكي نستوعب موقف الآميش، علينا أن نفهم كيف تم نسج قيمة الغفران في نسيج حياتهم.

بنى الآميش بيئة تقدّر قيمة الغفران وتغذّيها، لتصبح عادة من خلالها يشهدون عن محبة الله ورحمته وخلاصه كما ظهر في الحادثة أعلاه. فكيف نجح الآميش في بناء هذه البيئة؟ ينشأ أطفال الآميش في عالم مليء بالطقوس والممارسات التي تشدد على الغفران. فتعرض الكتب المدرسية منذ الصغر قصص شهداء الآميش الذين مارسوا الغفران ومحبة الأعداء بشكل فعلي قبل اعدامهم. في حين أن تعليم السيد المسيح عن الغفران يشكّل جوهر إيمانهم وفهمهم للخلاص، كما يظهر في تكرارهم للعبارة "لكي يغفر لنا، يجب أن نغفر للآخرين" (إنجيل متى 6: 12)، إلا أن التحوّل من الصلاة إلى الممارسة يستمد قوته من مثال المسيح وإعلان غفرانه على الصليب (إنجيل لوقا 23: 34) إضافة إلى شهادة شهداء الآميش التي تمدهم عزمًا وصلابة. محيطين أنفسهم بأبطال قدّموا الصفح لمن كانوا على وشك قتلهم. هذه الأحداث تم تحويلها إلى طقوس، قصص، ترانيم، عظات وممارسات أخرى.

من الجدير بالذكر أيضًا، أن لطقوس العشاء الرباني، الموسم الطويل من الفحص الذاتي وغسل الأرجل دور مركزي ساهم في تذكير الاميش بأهمية الغفران وطلب المغفرة. حيث أن الطقوس هذه تحثّ الفرد والجماعة على الفحص الذاتي قبل التقدم للمائدة. كما وتركّز على مفاهيم الغفران والمصالحة من خلال التعليم، الوعظ، الترنيم وطقوس التحية الجماعية كل يوم أحد. هذه الممارسات لا تجعل المغفرة سهلة. مع ذلك، فإنها تجعل الغفران ليس مجرد خيار بل ممارسة دائمة بالرغم من صعوبتها.

إن فهم الآميش للغفران المسيحي، اقتدائهم بالمسيح وبأبطال الإيمان، قبولهم للمعاناة كجزء من العيش بشكل أخلاقي، وخلق قيم وثقافة الغفران والسلام من خلال الطقوس الكنسية، ساعدهم على ممارسة الغفران حين قد تبدو المغفرة مستحيلة للآخرين.

قصة كنيسة السود الأمريكية وسن قانون يمنع التمييز العنصري

كيف ساهمت كنيسة السود بإنجاح حركة الحقوق المدنية الأمريكية التي أدت في عام 1964 إلى سن قانون يمنع التمييز العنصري؟ لقد قدمت كنيسة السود فلسفة توجيهية لحركة الحقوق المدنية الأمريكية من خلال ربط هدف الحركة بقيم مسيحيّة مثل: العدل والمساواة، المقاومة اللاعنفيّة كطريقة حياه، قبول مفهوم المعاناة المفديّة وأن تحرير المظلومين هو خدمة الله. لقد قامت كنيسة السود بتوصيل هذه القيم الثورية المضادة للقيم السائدة في عالمها الظالم، وقد عزّزت كل من طقوسها، ترانيمها وتعاليمها وصلواتها وعقائدها هذه الحقيقة.

لقد ربطت كنيسة السود هدف الحركة بالتعاليم الروحيّة والطقوس التي كان معظم السود يعرفونها كطريقة حياة وكرمز لثقافتهم. لقد ردّد القس مارتن لوثر كينغ جونيور رسالة كنيسة السود هذه في الحركة. فعندما تكلّم عن ترك العبيد لأرض مصر ودخولهم أرض الميعاد، كان هذا منطقيًّا للناس، فهذه كانت أيديولوجية الشعب الشعبية، وهذا كان إيمانهم، والفكر الذي تمّت رعايته، وعندما سمعت الجماهير تلك اللغة استجابت لها لأنها بيئة فكرهم الطبيعية. عندما كان الناس متّحدين بالفعل مع المعاني الحقيقية لهذا التراث الثقافي، رأوا وقتها إيمانهم كنضال تحرّريّ مألوف – لذلك أرادوا جميعًا أن يكونوا متديّنين. وهذا ساعدهم في النهاية على رؤية أن الدين يعني المشاركة في العمل وبالتالي تعاونوا مع حركة الحقوق المدنيّة الأمريكية. وهكذا وجدت الرسالة الأساسية لمارتن لوثر كينغ جونيور، كقائد روحي مسيحي وأيضًا كقائد سياسي، صدًى في الحياة الثقافية والدينية للسود مما جذبهم أقرب إلى الحركة.

في مجمل الأمر يمكن القول أن كنيسة السود تحوّلت إلى "كنيسة الحركة"، فلعبت دورًا هامًّا في تثقيف الجماهير السوداء من خلال الطقوس والبرامج التعليمية والوعظ والترانيم. كما وحدّدت أهداف الحركة وهي مساواة السود ككل في نظر الله كما وصفته المسيحية، وقرّرت أسلوب تقنيَّة الحركة التي شملت إجراءات غير عنيفة ومنضبطة.

قصة كنيسة السود في جنوب أفريقيا وطقوس الشفاء

بعد انتهاء الأبارتهايد وفي أعقاب لجنة الحقيقة والمصالحة [3]، تم تشكيل عدة مبادرات لتعزيز المصالحة والشفاء في جنوب أفريقيا. فبدأت عدة كنائس في تنظيم ورشات عمل تهدف للشفاء من خلال الجمع بين الضحايا والجناة من أجل لقاء مواجهة بروح الانفتاح. كما وفّرت هذه الكنائس "مكان آمن" للناجين أو المصابين بصدمات نفسية وعملت على تسهيل إنشاء مجموعات دعم، أو توجيه الجناة نحو الاعتراف بالذنب والتوبة من خلال الوعظ والتعليم.

واستطاعت بعض الكنائس من خلال خدمات العبادة والترنيم والوعظ والعشاء الرباني، تطوير طقوس شفاء رمزية لمساعدة الضحايا على الحداد والرثاء ومواجهة الماضي والشفاء والاحتفال بالمغفرة، ومساعدة الجناة في التعبير عن التوبة والندم. إن من واجب الكنيسة أن تشهد على وتمكّن من الاعتراف بظلم الماضي ومعالجته في بيئة آمنة، من خلال توفير منتدى للحقيقة والرواية والتذكر المؤلم للكشف عن إساءات الماضي، ثم الاعتراف والتوبة والغفران. غالبًا ما يكون التذكر هو الخطوة الأولى للشفاء، ولهذا السبب يعتبره البعض مهمة أخلاقية ذات أهمية كبيرة للمجتمع. هذه الطقوس تعبّر عن الحق والعدل والمصالحة والأمل واسترجاع الكرامة الإنسانية.

من خلال ممارسة الوعظ والتعليم ساعدت بعض الكنائس أعضائها على ترسيخ التقوى و"ثمار الروح"(غل. 5: 22-23) التي تؤكد على قيم المحبة والغفران والعدل والحق والسلام. إن هذه الطقوس هي أداة هامة وفعّالة في تعزيز الإجراءات نحو المصالحة المجتمعية. فالسعي لتحقيق العدالة ينطوي على مناصرة أولئك الذين تضرروا، والاعتراف بالخطأ المُرتكب وتصحيح الأمور. على الجانب الآخر، تتضمن الرحمة الغفران والبداية الجديدة. فالرحمة موجهة لدعم الأشخاص الذين اقترفوا ظلمًا وتشجعهم على التغيّر والمضي قِدمًا.

في الختام، يمكننا الاستنتاج أن كنيسة الآميش وكنيسة السود في أمريكا وأيضا في جنوب أفريقيا هي أمثلة لجماعات مرسَلة استخدمت مواردها وطقوسها لتمكينها في المشاركة في عمل الملكوت. فعملت على نشر محبة الله وخلاصه للمجتمع الأوسع، ومن خلال الغفران أتاحت تدفق النعمة بدلًا من المرارة والانتقام، وأدانت الشر واعترفت بالألم، وقاومت الشر بطرق سلمية وبنت استراتيجيات للتغلب على الشر بالخير. وبمعونة الروح القدس، تخيّلت مستقبلًا أفضل فكانت صوت نبويّ وجالت تصنع خيرًا فساهمت في تغيير المجتمع. لقد ألهَم الآميش العالم بقوة الغفران، فشَهد عن محبة الله وغفرانه. كما وشكّلت كنيسة السود الفلسفة التوجيهية لحركة الحقوق المدنية الأمريكية التي بنهاية المطاف أدت إلى سن قانون يمنع التمييز العنصري ضد السود في أمريكا، وبذلك نشرت عدالة الله وتحريره. وساهمت كنيسة السود في جنوب أفريقيا بمبادرات عديدة للشفاء والمصالحة.

وماذا عنّا؟ هل يا ترى نحتاج أن نطور داخل كنائسنا طقوس وبرامج لبناء جسور عبر الحواجز العرقية والدينية والجندريّة والجيل والمكانة الاجتماعية، في واقع ميَّزته الانقسامات السياسية والاجتماعية والدينية والطائفية؟ يا ليتنا نكون جماعة مرسَلة تكون نموذج يحتذى به لقبول الاخر ورفض كل عنصرية أو اقصاء.

مهمة الكنيسة عظيمة! ويبقى التحدي في كيفية استخدام مواردها. الأمر متروك للكنيسة للتعرف على الموارد الغنية التي لديها وتقديمها بكل اجتهاد وفرح.

 

مصادر

Hay, Mark, OMI. Ukubuyisana: Reconciliation in South Africa. Pietermaritzburg: Cluster Publications, 1998.

Jones, Gregory, ‘Crafting Communities of Forgiveness’. Interpretation No. 54, 2000.

Khoury Mansour, Rula. Theology of Reconciliation in the Context of Church Relations: A Palestinian Christian Perspective in Dialogue with Miroslav Volf, Carlisle: Langham Monographs, 2020.

Kraybill, Donald B, et al. Amish Grace: How Forgiveness Transcended Tragedy. 1st ed., Jossey-Bass, 2007.

Morris Aldon M. Morris. The Origins of the Civil Rights Movement: Black Communities Organizing for Change, New York: The Free Press, 1984.

Nolte, Claudia. “The Church as Reconciling Community and Institution in South Africa”, Journal of Lutheran Ethics, 4 (3), 2004.

Turner, Victor. The Ritual Process: Structure and Anti- Structure. Ithica, New York: Cornell Paperbacks, Cornell University Press, 1969.

Wepener, C.J., From Fast to Feast: A Ritual-Liturgical Exploration of Reconciliation in South African Cultural Contexts. Liturgia Condenda 19, Peeters, Leuven. 2009:71

 

[1] الليتورجيا: كلمة يونانية تعني العمل الجماعي أو الخدمة الجماعية، وتشير إلى الطقوس الكنيسة.

[2] الآميش هي طائفة مسيحيَّة تنتمي لطائفة الأنابابتيست وهي إحدى الحركات الإصلاحيَّة المسيحيَّة التي نشأت في العصور الوسطى. اضطهدت حركة الأنابابتيست من قبل طوائف الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا آنذاك وتمَّ الحكم عليهم بالإعدام، وأعدم الكثير منهم مما حدا بهم للفرار إلى أمريكا.

[3] "لجنة الحقيقة والمصالحة" هي هيئة رسمية أقرّتها الحكومة الجديدة بعد انتهاء الابارتهايد لعقد "جلسات استماع" تشبه المحكمة، حيث تمت دعوة الشهود الذين تم تحديدهم كضحايا للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، للإدلاء ببيانات عن إساءة معاملتهم، وتم اختيار بعضهم لجلسات استماعٍ علنية. وأُعطيت الفرصة لمرتكبي الانتهاكات للإدلاء بشهادتهم وطلب العفو عن جرائمهم من الدعوى المدنية والجنائية.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع