• كيف ندعو «العهد القديم» ؟ - القس د. حنا كتناشو
كيف ندعو «العهد القديم» ؟ - القس د. حنا كتناشو

جادلت في مقالٍ سابقٍ أنَّ "العهدَ القديمَ" كتابٌ للمسيحيين وليس ضدَّهم. وموقفُنا من أسفارِ العهدِ القديمِ واضـحٌ إذ نعتبرُها كلمةَ الله الَّتي كُتبت من أجلنا وليس ضدّنا أو ضدّ شعبنا. [1] وربما من المناسب أن نفحص التسميةَ المعروفة بـ "العهد القديم". فلماذا ندعو هذا الأسفار بهذا الاسم؟ ولا شكَّ أنَّ الأسماءَ مهمةٌ ولها دلالاتٌ وتُعبّـر عن مفاهيمَ وثقافاتٍ لغويةٍ ودينيةٍ متنوعة. [2] وترتبط التَّسمياتُ بالاحترام وبطبيعة العلاقة إذ نستخدمُ في الشَّرق الأوسط مصطلحات مثل أبو فلان وأم علان ونضيف الألقابَ للأسماء إذ نقول عمي وخالي حتَّى للأشخاص الغرباء. وربما ينفرُ البعضُ من إضافة الألقاب لارتباطها بتقدّم سنين العمر. ونستخدم الألقاب والتَّسميات الأكاديمية: بروفيسور وأستاذ وغيـر ذلك، ونستخدم الألقاب الكنسية: أخ، أخت، شمّاس، قسيس، مطران، بطريرك، وغير ذلك. وتُشكل التَّسميات طبيعةَ العلاقة في مجتمعنا العربي.

فما هو الاسمُ الأفضلُ لــ "العهد القديم"؟ وربما نتذكر أغنيةَ المغنية صباح الّتـي تقول "شو اسمك، قللي شو اسمك يا شاغل هالناس بحسنك، شو اسمك، قرب وشوشني وخلي كلامك ينعشني . . . مشّي معي لعند القاضي تاكتبلك قلبي باسمك" [3] فلماذا يستخدم المسيحيون التعبـير "العهد القديم" لوصف الأسفار التي تسبق العهد الجديد؟ هل هذا هو أفضل اسم وما مدلوله؟ ولا شكَّ أنَّ المصطلح "العهد القديم" يشمل أكثـر من مدلول. فقد يكون مدلولُه الأسفارَ الموجودةَ في العهد القديم أو العهدَ الذي أقامَهُ اللهُ قبل قدوم العهد الجديد. وسنحدد موضوع دراستنا في تسمية العهد القديم ثمَّ سنفحص مفهوم العهد القديم من منظورٍ مسيحي.

التَّسمية في اليهودية

تتعددُ تسمياتُ الأسفارِ المقدَّسة التـي تسبق العهد الجديد.[4]  وتختلفُ الدياناتُ اليهودية والمسيحية والإسلامية في التَّسميات. وتتنوع التَّسمياتُ أيضاً في المدارس اللاهوتية المختلفة. فلنبدأ الحديثَ عن التَّسمية في الدّيانة اليهودية. يميلُ أتباعُ الدِّيانة اليهودية والمتعاطفين معهم إلى استخدام التَّسميات التَّالية: تناخ (תנ"ך)، مقرا (מקרא)، كتاب الكتب أو أفضل الكتب (سفر هسفريم - ספר הספרים)، الكتب أو الأسفار المقدسة (كتـبي هقودش - כתבי הקודש)، وسفر العهد (سِفر هبريث – ספר הברית)، وأسفار "ك د" (ك"د هسفريم - כ"ד הספרים) حيث تُستخدم الأحرف العبرية كاف (כ - 20) ودالت (ד - 4) للدلالة على الرقم 24، إلّا أنّ أوَّل مصطلحين (تناخ ومقرا) هما الأهم والأكثـرُ استعمالاً بين اليهود.

 

بعض التَّسميات

תנ"ך

מקרא

ספר הספרים

כתבי הקודש

ספר הברית

כ"ד הספרים

تناخ

مقرا

سفر هسفريم

كتبي هقودش

سفر هبريث

ك د هسفريم

 

 

وتُدعى الأسفار باللغة العبرية بـ "تناخ"، وتُكتب بالعبرية תנ"ך. وهي كلمة تختـزل ثلاث كلمات عبـرية مدلولها: التوراة والأنبياء والكتب (תורה/توراه – נביאים/نبيئيم – כתובים/كتوبيم). وتركّز هذه التّسمية على المضمون. فالتَّوراة هي المرجعُ الَّذي يستند عليه القسمان: الأنبياء والكتب. التَّوراة هي أسفارُ موسى الخمسة. الأنبياء هي الأسفار التَّالية: يشوع، قضاة، صموئيل، ملوك، إشعياء، إرمياء، حزقيال، والأنبياء الصِّغار. الكتبُ هي المزاميـر، الأمثال، أيوب، نشيد الانشاد، راعوث، مراثي، جامعة، استير، دانيال، عزرا-نحميا، وأخبار الأيام.

تناخ/ תנ"ך

توراه/תורה

تكوين

خروج

لاويين

عدد

تثنية

نبيئيم/נביאים

يشوع

قضاة

صموئيل

ملوك

إشعياء

إرمياء

حزقيال

الأنبياء الصغار

كتوبيم/כתובים

مزامير

أمثال

أيوب

نشيد الانشاد

راعوث

مراثي

جامعة

استير

عزرا - نحميا

أخبار الأيام

 

 

أمَّا الكلمة مقرا (מקרא)، فلقد اُستخدمت في الـمشنا (التقليد الشفوي المدوّن)، ويشدّد هذا التَّقليد أنَّ ابن الخمس سنوات يجب أنْ يبدأ بقراءة "التناخ". ومدلول الكلمة "مقرا" مرتبطٌ بالقراءة بصوتٍ مسموعٍ. ولهذا تركّز هذه التَّسمية على الاستخدام. وترتبط بالتَّقاليد اليهودية في قراءة الأسفار المقدسة في المجامع حين يجتمع النَّاس للعبادة. وربما تتشابه الكلمة مع كلمة قرآن العربية. أمَّا التَّسميات الأخرى فيختلف التركيـز فيها كما يلي: سِفر هسفريم (ספר הספרים) يدلّ على سيادة أسفار العهد القديم وتفوُّقها على أيّ كتاب آخر، كتبي هقودش (כתבי הקודש) تدلّ على قداسة الكتب وانفصالها عما هو شائع وارتباطها بالله، ك"د هسفريم (כ"ד הספרים) تدلّ على قانونية الأسفار وعددها، سفر هبريث (ספר הברית) تدلّ على العهد الَّذي أسَّسه اللهُ مع شعبه ومحوره العهد مع موسى.

 

التسمية في الإسلام

بعد الحديث عن اليهودية من المناسب أن نتحدَّث عن تسمية العهد القديم في الإسلام. يستخدم المسلمون مصطلح التَّوراة للدلالة على أسفار موسى الخمسة وأحياناً للدلالة على أسفار العهد القديم. ويتوافق هذا الأمر مع الطريقة التي يستخدم فيها الكتابُ المقدَّسُ نفس الكلمة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يسأل السَّيد المسيح اليهود قائلاً: أليس مكتوباً في ناموسكم: أنا قلت إنكم آلهة (يوحنا 10: 34)؟ [5] لقد استخدم النَّص كلمة ناموس أو توراة لتشمل سفر المزاميـر (راجع مز 82: 6). وتَظهر الكلمةُ "توراة" ثمانية عشر مرة في القرآن. قسمٌ منها يرتبط بكلمة الإنجيل كما في سورة عمران. تقول سورة آل عمران الآية 3: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. ويضيف القرآن قائلا: " "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ" (الأنبياء: 48). حسب بعض التَّفاسير الإسلامية مدلول الكلمة "فرقان" هو الكتب السَّماوية التي تُفرّق بين الحقِّ والباطل وبين الحلال والحرام. وتشمل هذه الكتب التَّوراة وربما العهد القديم.

 

التسمية في المسيحية والدوائر الأكاديمية

            أما في الدوائر المسيحية سواء على المستوى الكنسي أو الأكاديمي فتتعدد التَّسميات بحسب المواقف اللاهوتية والسّياق اللغوي والحضاري. وبالرَّغم من أهمية المصطلح "العهد القديم" إلَّا أنَّنا يجب أن نقيّم هذه الكناية وننفتح لتعددية التَّسميات بحسب السّياق وبهدف البناء ونشر السَّلام وليس عن حزنٍ أو اضطرارٍ. [6] ونجد التَّسميات التَّالية: (1) تناخ، (2) الأسفار العبرية، (3) العهد الأول، (4) العهد الأقدم، (5) التوراة، (6) أسفار الشريعة، (7) مقرا، (8) الناموس. ولا يُعبـر هذا الترتيب عن أولويات التَّسمية إذ ترتبط التَّسميات بالتَّقليد الدّيني واللغوي والقناعات الإيمانية التي ينتمي إليها المتحدّث أو التي يريد التَّشديد عليها.

 

التَّسميات

 

تناخ

الأسفار العبرية

العهد الأول

العهد الأقدم

 

التوراة

أسفار الشَّريعة

 

مقرا

 

الناموس

 

 

            ويستخدم العديدُ من المسيحيين المنغمسين في الحوار المسيحي – اليهودي الكلمات التي لا تستفز الدّين اليهودي أو المتعاطفين معه. ولهذا يستخدمون المصطلح تناخ أو الأسفار العبرية إلَّا أنَّ هذه المصطلحات محدودة. [7] فالعهد القديم لا يحتوي نصوصاً عبرية فحسب بل يحتوي أيضاً نصوصاً آرامية، مثل بعض أجزاء سفر دانيال. إضافة إلى ذلك، يؤمن الأرثوذكس الخلقيدونيون أنَّ نصوصَ العهد القديم الموحى بها هي النُّصوص اليونانية وليست العبرية. [8] ثمَّ هناك تحديٌ آخر إذ لا تحتوي النصوص العبرية الماسورية على كلِّ أسفار العهد القديم التي تؤمن بها الكنائس التَّقليدية. فالقانون الأكبر الذي يشمل الأسفار القانونية الثانية (أو الأبوكريفا) قد خُطَّ باللغة اليونانية وظهر في المخطوطات السَّبعينية اليونانية ثمَّ ظهر في المخطوطات اللاتينية (الفولغاتا) ولغات أخرى. ولم تظهر بعض أسفار القانون الأكبر في لائحة أسفار القانون الأصغر أي في المخطوطات الماسورية العبرية. [9] وهكذا يصبح المصطلح "الأسفار العبرية" محدوداً ويخلو من الدّقةِ في بعض الأحيان.

القانون الأكبر

 

القانون الأصغر

المخطوطات السبعينية

اللغة يونانية

مخطوطات الفولغاتا

اللغة لاتينية

المخطوطات الماسورية

اللغة عبرية وبعض الأجزاء آرامية

       
 

            ولهذا فضّل البعضُ استخدامَ الكلمات: التَّوراة أو الشَّريعة أو النَّاموس. وعندما نستخدم هذه الكلمات للدلالة على أسفار العهد القديم فإنَّ الكلمةَ الأولى أي التَّوراة ترتبطُ عادةً بأسفار موسى الخمسة (البنتاتوك - Pentateuch) فلا تُبـرز الأسفارَ التَّاريخيةَ وأسفارَ الحكمةِ والأسفارَ النَّبويةِ بصورة عادلة. وبينما تركّز كلمة "التوراة" على الأسفار الخمسة الأولى فإن كلمتي "شريعة" و"ناموس" تركزان على نوعيةٍ واحدةٍ من الإعلان الإلهي، أي الشَّرائع. فكلمة النَّاموس هي كلمةٌ يونانيةٌ ويبدو أن استخدامها العربي لا سيّما مع ال التعريف يُشدد على الشَّريعة الموسوية. ولهذا يختزل هذا المدلول أنواع الأدب المختلفة مشدداً على نوعٍ واحدٍ. وتحوي أسفارُ العهدِ القديمِ تنوعاً أدبياً كبيـراً لا يمكن اختزاله بنوعٍ واحدٍ أي بالشَّريعة أو بأسفار موسى فقط.

 

مفهوم العهد

            وعندما ندرس العهدَ الجديدَ نجد أنه يستخدم مصطلح العهد القديم أو العهد العتيق. إلا أنَّ هذا الاستخدام لا يعني أسفار العهد القديم بل مفهوم ومضمون العهد القديم. [10] وبسبب المضمون بدأ المسيحيون يستخدمون التَّعبير "العهد القديم" للدلالة على الأسفار التي تروّج مفهوم علاقة الله مع شعب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم قبل قدوم يسوع المسيح. ولنحدد مفهوم التَّعبيـر "العهد القديم" من منظور كُتّاب العهد الجديد سيكون من المفيد أنْ ندرس بعض نصوص العهد الجديد الَّتي تصف لنا مفهوم العهد أو مفهوم قديم لا سيّما عندما ترتبط بكلمة أو بمفهوم العهد. [11]

            لا شكَّ أنَّ الكلمات ברית أو διαθηκη أو الكلمات المرتبطة بها لا يمكن إدراك مفهومها بناء على دراسة الكلمة وحدها دون فهم السِّياق. فمن الضَّروري فحص سياق استخدام هذه الكلمات لكي ندرك مفهومها الصَّحيح. ولقد قام الباحث موري بهذه المهمة وسأوجز أهم استنتاجاته. [12] أولاً، يتمحور العهد حول بناء العلاقة وليس الطقس. ثانياً، تشمل هذه العلاقة وعوداً والتزامات. ثالثاً، تُبنى هذه العلاقة بارتباط دموي واستخدام الذبيحة. رابعاً، اشترك الله في بناء العهود ليس كمتفرج بل كمشارك بهدف نشر السلام الإلهي (שלום). خامساً، تطوّر مفهوم العهد بواسطة نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم داود ثم العهد الجديد ووصل ذروته في إنجيل المسيح.

في ضوء ما سبق وبهدف التبسيط نسأل: ما مفهوم الاتفاق العهدي؟ ثمة اتفاقيات تتعلقُ بتأجير الممتلكات واتفاقيات تجارية بين مؤسسات وقروض بنكية مع شروط محددة. وهناك اتفاقيات متنوعة وعديدة. لكنَّنا نُصنِّفُ الاتفاقيات ونُقسّمها إلى درجات بحسب أهميتها. فاتفاقية نوال قرض بنكي أقل درجة من عهد الزواج الذي يشمل الالتـزام مدى الحياة. والعهد مع الله هو التزام أبديٌّ وهو التزامٌ شاملٌ يشمل كلَّ جوانب الحياة وهو اتفاقٌ مكلفٌ مبنـي على الدَّم والعهد القديم هو اتفاقٌ مع أهمّ شخصٍ في الكون. وطبيعة المتعاهد فيه تُشكل طبيعة العهد. فعندما يكون العهد مع الله كلي العلم، كلي الحضور، كلي القدرة، كلي القداسة، ومُحب البشر فإن طبيعة العهد تكتسب بُعداً أعمق وأشمل.

 

أربعة أوجه للعهد القديم

وبعد تعريف العهد باقتضاب نرغب في إبراز أربعة أوجه مرتبطة بمدلول العهد من منظورٍ مسيحيٍّ وهي: العهد القديم هو عهد الآباء، وعهد ختان الأبناء، وعهد جبل سيناء، وعهد فيه بطلان وانتهاء. دعونا ننظر معاً إلى بعض نصوص العهد الجديد التي تستخدم هذه المصطلحات.

العهد هو:

عهد الآباء

عهد ختان الأبناء

عهد جبل سيناء

عهد فيه بطلان وانتهاء

 

 

عهد الآباء

أولا، يستخدم الرسول بطرس مصطلح "الآباء" في عظته بعد أن شفى الشَّحَّاذ الأعرج. فيقول إن إله إبراهيم واسحاق ويعقوب، إله آبائنا، مجّد فتاه يسوع (أع 3: 13). ويضيف قائلاً: إن موسى قال للآباء: إن نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم. له تسمعون في كل ما يُكلمكم به" (أع 3: 22). ثم يقول: "أنتم أبناء الأنبياء، والعهد الذي عاهد به الله آباءَنا قائلاً لإبراهيم: وبنسلك تتبارك جميع قبائل الأرض" (أع 3: 25). فمن يقصد الرسول بطرس بكلمة آباء. تتكرر كلمة الآباء عشرات المرات في العهد الجديد ولوقا هو أكثر من يستخدمها لا سيَّما في سفر أعمال الرسل. وتشمل الكلمة فتـرة إبراهيم (أع 3: 25) واسـحاق (أع 7: 32) ويعقوب (أع 7: 15) والأسباط (أع 7: 9) وموسى (أع 3: 22) والشَّعب في البرية (أع 7: 38) والشَّعب في الأرض حتَّى أيام داود (أع 7: 45) وفتـرة داود (أع 2: 29) وإشعياء (أع 28: 25) وكل الفتـرة التـي سبقت بطرس وارتبطت بشعب بنـي إسرائيل (أع 15: 10). فالآباء هم شعبُ إسرائيلَ بصورتهم الإيجابية والسَّلبية أيضاً. ويشمل بطرس كلَّ الآباء في عهدٍ واحدٍ وهو العهدُ الإبراهيمي. [13] ونستطيع القول إنَّ العهدَ القديمَ غيـرُ مكتمل بدون العهد الإبراهيمي. فالعهد الإبراهيمي في جوهر العهد القديم وكليُّ الحضور فيه. ويلّخص بطرس مفهوم العهد الإبراهيمي بالكلمات "وبنسلك تتبارك جميع قبائل الأرض" (أع 3: 25؛ تك 12: 3؛ 18: 18؛ 22: 18؛ 26: 4؛ 28: 14) موضّـحـا أنَّ هذه البركة مرتبطةٌ بيسوع الذي ليس بأحدٍ غيـره الخلاص ومرتبطةٌ أيضاً بالتَّوبة. [14] فلقد أرسل اللهُ يسوعَ المسيح ليبارك شعبَ إسرائيلَ وذلك بدعوتهم للتَّوبة وبردِّ كلّ واحدٍ عن شروره (أع 3: 26). وعندما يقول الرسول "بنسلك" فقد تكون الكلمة جواباً لسؤالين: أين؟ وكيف؟ وعندما نسأل أين تتبارك الأمم يكون الجواب أنهم يتباركون عندما يصبحون جزءاً من إبراهيم أو في النسل. وكأننا نسأل: أين الباب ويكون الجواب "بالبيت" أي في البيت. والسُّؤال الثَّاني هو: كيف تتبارك الأمم. والتركيـز الآن على وسيلة البركة وليس مكانها. ويكون الجواب: بواسطة نسل إبراهيم. المعنيان محتملان. بكلماتٍ أخرى، العهدُ القديمُ بجانبه الإبراهيمـي قد تحقَّق في العهد الجديد أي في المسيح يسوع. ونستمر كمسيحيين بقراءة العهد القديم بهذا المفهوم.

ولا شكَّ أن العهد الإبراهيمي توضّـح ونضـج في طيات العهد القديم وفي الفترات الزَّمنية المتنوعة. فلقد برز في السِّياق الموسوي (خروج 19 – 24) بواسطة عهد سيناء الذي تأكدت فيه أهمية الذبائح في عبادة الإله القدوس. وتأطّر العهد الإبراهيمي زمن داود وتحدد بارتباطه بملك. فبعد أن ارتبط العهدُ القديمُ بالبركة الإبراهيمية وبالذبيحة الموسوية صار مرتبطاً بمملكة داودية. لكنَّ المملكةَ انهارت وذهب الشَّعبُ إلى السَّبي فتحدَّث الأنبياءُ عن يقظةٍ روحيةٍ عظيمةٍ وعن عهدٍ جديدٍ يستبطنُ فيه النَّاسُ توراةَ الله وتعليماته. وهكذا صار العهدُ الإبراهيمي مثل بذرة زُرعت في أرضِ العهد القديم ونمت ونضجت حتَّى أثمرت في المسيح الَّذي حقَّق أحلامَ العهد القديم بمجيء العهد الجديد.

 

عهد ختان الأبناء

ثانياً، يتحدَّث استفانوس في عظته عن عهد ختان الأبناء (أع 7: 8). ونجد تفاصيل هذا العهد في تكوين 17 إذ يطلب اللهُ من إبراهيم أنْ يختتن كلُّ ابن ذكر [15] ويشرح الرسول بولس أنَّ عهد الختان ينفع إن عمل الإنسانُ بتعليمات الله المكتوبة في التَّوراة دون أن يتعدى على أي وصية (راجع غل 5: 1 – 15؛ في 3: 2 – 6؛ رو 2: 25 – 29؛ 1 كور 7: 19). أما إن فشل في وصية واحدة فعندئذ يصبح الختان غرلة (رو 2: 25) ويصبح الإنسانُ تحت الدَّينونة (رو 2: 27). ويوضّح الرسولُ بولس أنَّ الختان الظاهر لا ينفع بدون ختان القلب بالروح (رو 2: 29). ويقول أيضا "لأنه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئا ولا الغرلة، بل الإيمان العامل بالمحبة" (غل 5: 6). ويضيف قائلاً: "لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئا ولا الغرلة بل الخليقة الجديدة" (غل 6: 15). ويبدو أنَّ العهدَ الجديدَ لمْ يرفض فكرةَ الختان بل بيّن مدلولَها مؤكداً أنَّ ارتباط القلب بالله أهمُّ من علاماتٍ جسديةٍ تعكس انتماءنا لله. وولاءُ القلبِ أهمُّ من الطُّقوس الدِّينية. ويختلف المسيحيون في قضية الختان. فبعضهم يربطها بعمودية الأطفال بينما يرفض البعضُ الآخر هذا الربط. [16] ولا شكَّ أنَّ المعمودية أوسعُ من الختان إذ تشمل اليهودَ والأممَ معاً والذكور والإناث أيضاً. وبينما كان الختانُ علامةَ الانتماء لجماعة العهد في العهد القديم فإنَّ المعموديةَ علامةُ الانتماء لجماعة العهد في العهد الجديد.

 

عهد جبل سيناء

ثالثاً، يذكر بولس الرَّسول في الرسالة إلى أهل غلاطية أنّه يوجد عهدان. [17] أحدهما مرتبطٌ بهاجر وبجبل سيناء والآخر مرتبط بسارة وبأورشليم العُليا. ويُظهر الرسول بولس أنَّه يوجد أكثـر من مفهوم للعهد القديم. فثمة توجه يقود للعبودية ويستخدم الجسد وتوجه آخر يعتمد على الوعد ويقود للحرية. لقد جاء بعضُ دعاة التهويد وطالبو أهل غلاطية بالتَّجاوب مع العهد القديم من منظور الجسد ومحاولة تبرير النَّفس بطاعة الشَّرائع. وبعكس هذا التَّوجه أكَّد الرَّسولُ بولس أنَّ المفهوم الأصح والأدق هو قراءة العهد القديم من منظور الوعد والرَّجاء. فالله قادرٌ أن يعطي العاقرَ أولاداً وبناتٍ وقادرٌ أنْ يجعلنا أولادَ الرُّوح أي بسمات سماوية وبحرية النعمة وليس بمتطلبات العمل في سبيل إرضاء الخالق. النَّعمة تحرّر الإنسانَ من الخوف وتسكب فينا المحبة التي من خلالها نعيش القداسة. فالمحبة هي أفضل طريق للطاعة التي يطلبها الله.

 

عهد فيه بطلان وانتهاء

رابعاً، العهد العتيق هو عهد فيه بطلان وانتهاء. [18] يقول النص المقدَّس: "لو كان ذلك الأول بلا عيب لما طُلب موضع لثانٍ" (عب 8: 7). والعهد الأول هو عهد عتق وشاخ وقريب من الاضمحلال كما تشهد كلمة الله في عبرانيين 8: 13. ولهذا لا حاجة أن يحكم علينا أحد من جهة أكل أو شرب أو عيد أو هلال (كولوسي 2: 16) ولا نحتاج إلى هيكل وذبائح وكهنة يقدمون ذبائح حيوانية. فالمسيح هو الذبيحة الواحدة والأبدية وبقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين (عبرانيين 10: 14). ولا نحتاج إلى التمسك بقوانين الطعام اليهودية لأنها لم تعد سارية المفعول على أتباع المسيح. ويشرح الكتاب المقدَّس أن الأطعمة والأشربة والغسلات المختلفة هي فرائض جسدية فقط وهي وقتية وتنتهي بقدوم زمن الإصلاح أي عصر العهد الجديد (عبرانيين 9: 10). ويطلب منا هذا العصر أن نتبنى قراءة كريستولوجية للعهد القديم نفهم من خلالها دور فرائض العهد القديم ووقتيتها ورموزها التي تنفك في المسيح.

ويقول بولس الرسول في 2 كورنثوس 3: 14: "بل أُغلظت أذهانهم لأنه حتى اليوم ذلك البرقع نفسه عند قراءة العهد العتيق باق غير منكشف، الذي يُبطل في المسيح". تقول الترجمة المشتركة: ولكِنْ عَمِيَتْ بَصائِرُهُم، فلا يَزالُ ذلِكَ القِناعُ إلى اليومِ غَيرَ مكشوفٍ عِندَ قِراءَةِ العَهدِ القَديمِ، ولا يَنزِعُهُ إلاَّ المَسيحُ (2 كورنثوس 3: 14). وتستخدم الترجمتان الكاثوليكية وكتاب الحياة تعبير "العهد القديم".

اسم الترجمة

فاندايك

المشتركة

الكاثوليكية

كتاب الحياة

البولسية

التعبير المُستخدم

العهد العتيق

العهد القديم

العهد القديم

العهد القديم

العهد العتيق

 

ويحوي النص اليوناني كلمتين وهما دياثيكي (διαθήκη) و ڤالايوس (παλαιός) وحرفيا تعني الكلمات: العهد القديم. إلا أن السَّياق التاريخي والأدبي يوضّح لنا أن العهد الجديد لم يكن مكتوبا بعد. فمن غير المتوقع أن يقصد الرسول بولس أسفار العهد القديم مقارنة مع كتب العهد الجديد. لكنه يتحدَّث عن جانبٍ لاهوتي من العهد القديم وليس عن أسفارِ العهد. علاوة على ذلك، يتحدّث السِّياق عن موسى (2 كور 3: 15) مما يجعل مدلول الكلمات "العهد القديم" مرتبط بكتب موسى الخمسة التي نجد فيها العهد الإبراهيمي أو عهد الآباء الذي يتحقَّق في المسيح وعهد ختان الأبناء الذي يتوسع في المسيح وعهد سيناء الذي لا يتحقق إلَّا بالمسيح وعهد البطلان والانتهاء المرتبط بالفرائض والطقوس.

            في الختام، لقد درسنا في هذا المقال تسميات "العهد القديم" المختلفة سواء أكان في اليهودية أم في المسيحية أو في الإسلام. وفحصنا مدلول التسميات المختلفة. ونقترح أنَّ تعدد التسميات فرصة لإبداء المرونة ما دامت هذه المرونة لا تتعارض مع إيماننا المسيحي. علاوة على ذلك، قدمنا عدة أوجه لمفهوم العهد أو الاتفاق العهدي المبني على الذبيحة. وسنفحص موقف المسيحي من طاعة العهد القديم في مقال آخر في المستقبل.

 

[1] راجع مقال العهد القديم كتاب لنا أم ضدنا؟ على الرابط التالي: http://www.comeandsee.com/ar/post/3006181.

[2] For further information see Michael Barrett, What’s in a Name: Illustrations of Old Testament Name Theology,” Puritan Reformed Journal 6 (2014): 5-20.

[3] الأغنية من كلمات توفيق بركات وتلحين فلمون وهبة وغناء صباح.

[4] Walter Brueggemann, An Introduction to the Old Testament (Louisville: Westminster John Knox Press, 2003), 1-3; Bill Arnold, Introduction to the Old Testament (New York: Cambridge University Press, 2014), 4-5.

[5] or further discussion see Stephen Homcy, “’You Are gods’: Spirituality and a Difficult Text,” Journal of the Evangelical Theological Society 32 (1989): 485-491.

[6] باسم أدرنلي، "هل كناية ’العهد القديم‘ تعبير سليم؟"  لينجا (3 / 11 / 2020): انترنت. موجود على الرابط التالي: https://www.linga.org/varities-articles/MTEwMTQ.

[7] James Edwards, “What’s in a Name?,” Christianity Today 43 (1999): 59-61; Amy-Jill Levine, “What is the Difference Between the Old Testament, the Tanakh, and the Hebrew Bible?,” n.p. (cited 27 Apr 2022). Online: https://www.bibleodyssey.org/en/tools/bible-basics/what-is-the-difference-between-the-old-testament-the-tanakh-and-the-hebrew-bible.

[8] في عام 451 ميلادي عقد المسيحيون في مدينة خلقدونية مجمعا لبحث هوية يسوع المسيح. وقسم المجمع الحاضرين إلى مجموعتين. مجموعة أيدت استخدام المصطلح "طبيعتين" لوصف هوية يسوع المسيح ومجموعة أخرى رفضت هذا المصطلح. الطبيعتان هما الطبيعة الإلهية الكاملة والطبيعة الإنسانية الكاملة. الخلقيدونيون هم الذين قبلوا مصطلح "طبيعتين" ومدلوله بحسب مجمع خلقيدونية. ويصفهم البعض بالروم الأرثوذكس.

[9] معنى الكلمة "الماسورية" هو التقليدية.

[10] Lee McDonald, The Biblical Canon: Its Origin, Transmission, and Authority (electronic edition; Grand Rapids: Baker, 2013), 15.

[11] For an introduction of the academic discussions about “ברית” in the Ancient Near East, see Ada Taggar-Cohen, “The Hebrew Biblical Berit in Light of Ancient Near Eastern Covenant Treaties,” Canon & Culture 14 (2020): 5-50. See also Scott Hahn, “Covenant in the Old and New Testaments,” Currents in Biblical Research 3 (2005): 263-292.

[12] Scott Murray, “The concept διαθηκη in the Letter to the Hebrews,” Concordia Theological Quarterly 66 (2002): 41-60.

[13] للمزيد من المعلومات عن العهد الإبراهيمي راجع حنا كتناشو، "العهد الإبراهيمي،" مجلة النسور (2022): 29-35.

[14] For further discussion see Alexis Leonas, “A Note on Acts 3, 25-26: The Meaning of Peter’s Genesis Quotation,” Ephemerides Theologicae Lovanienses 76 (2000): 149-161.

[15] For further information see Joachim Krause, “Circumcision and Covenant in Genesis 17,” Biblica 99 (2018): 151-165.

[16] Anthony Thacker, “Baptism, Circumcision and Grace: The Debate Between Paedo-Baptists and Believer Baptists Considered,” Journal of European Baptist Studies 6 (2005): 32-44.

[17] For further information see Debbie Hunn, “The Hagar-Sarah Allegory: Two Covenants, Two Destines,” Biblica 100 (2019): 117-134.

[18] Steve Stanley, “Hebrews 9: 6-10: The ‘Parable’ of the Tabernacle,” Novum testamentum 37 (1995): 385-399.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع