
تحدَّثنا سابقاً عنْ علم الإسخاتولوجيا وأكّدنا أنّ الزّمانَ الأخيرَ أو آخرَ الزَّمانِ لا يبدأُ في المستقبلِ بل بدأَ في الماضي. بدأَ في القرنِ الأوَّل الَّذي أشرقَ فيه عصرُ الزَّمانِ الأخيرِ، بل الساعةُ الأخيرةُ من خلال الحدث الكريستولوجي. [1] لقد أكّدنا أنّ المسيحَ قد يأتي بأيَّةِ لحظةٍ رغم وجود أمورٍ نتوقعُ أنْ تتمَّ قبلَ مجيئِه.[2] وجادلنا أنَّ الأحداثَ الاسخاتولوجية قد تَمَتْ جُزئياً لكنَّـها قد تَتَحَقَقُ بصورةٍ أكبر في المستقبلِ. وشرحنا عقيدةَ الاختطافِ والمخططَ الزَّمنيَّ الَّذي تتبناهُ مدرسةُ التَّدابير. [3] فبحسب هذه المدرسة، سيأتي المسيحُ بغتةً بعدَ عصر الكنيسة ويختطفُ المؤمنينَ مما يسببُ غيابَ حضورِ الرُّوحِ القّدُّس من حياةِ البشرِ واستفحالَ الشَّرِ في شخصيةٍ سياسيةٍ ودينيةٍ تُدعى ضدّ المسيح الَّذي يحكمُ وينشرُ الشَّرَ بين المجيئين الثَّاني والثَّالث. لقد أظهرنا ضعفَ الافتراضِ أنَّ الاختطافَ السَّري يتبعُهُ مجيءٌ علنيٌ مظهرين أنَّهُ يوجدُ مجيءٌ ثانيٌ واحدٌ ولا يوجد مجيءٌ ثانيٌ وثالثٌ. والآنَ سنتحدَّثُ عنْ موضوع ضدّ المسيح الَّذي شغلَ بالَ الكثيرينَ، بل سبَّبَ هوَساً إسخاتولوجيا وتنجيماً مُحرجاً لكلِّ منْ يَعتنقُ دربَ الإيمانِ المُفكّر. سأعرض أولاً مقدمةً عن عقيدةِ ضدِّ المسيح مُخصصاً الحديث والشرح لرسائل يوحنَّا في العهد الجديد.
هوس تحديد هوية ضد المسيح
لا يزال عددٌ من المسيحيين والمسيحيات منشغلين ومنشغلات في تحديد هوية ضدّ المسيح. وتزداد لائحةُ الأسماء يوماً بعد الآخر. [4] شملت الأسماء غورباتشوف الشيوعي وهنري كسينجر اليهودي الأمريكي وصدام حسين المسلم العراقي. [5] أضف إلى ذلك هتلر وستالين ورونالد ريجن ودونالد ترامب الذي نجى من محاولة اغتيال مما زاد من تأهيله أن يكون ضدّ المسيح. وشملت الأسماء الكثير من البابوات والأباطرة والحكام والقادة عبر التاريخ وشملت أيضاً المؤسسات الدينية والسياسية مثل الكنيسة الكاثوليكية في روما أو الاتحاد الأوروبي [6[ ويستمر المنجمون في تحديد الأسماء ويضيفون اسما تلو الآخر من أمريكا وأوروبا وروسيا والصين وإسرائيل وإيران والعراق وبلاد أخرى. [7] ويزداد فشل تحديد هوية ضد المسيح في التنجيم المسيحي المعاصر. ظنَّ البروتستنت لسنواتٍ طويلة أنَّ البابا الكاثوليكي هو ضدُّ المسيح. اعتقد الكاثوليك أنَّ لوثرَ وكلفن وأمثالهم هم ضد المسيح.[8] ويدلو خبراء الإسلام دلوهم في الحديث عن المسيح الدجال فيربطونه مع ما يُدعى بالمؤامرة اليهودية ومع إسرائيل والولايات المتحدة والصهيونية. [9]
تعدد الألقاب والتعبيرات المجازية
ومع تعدد الأسماء تتعدد الألقاب. فنجد ضد المسيح، المسيح الكذاب أو المسحاء الكذبة، المسيح الدجال، الوحش، إنسان الخطيئة، ابن الهلاك، المقاوم، الأثيم، وغيرها. وتتعدد التعبيرات المجازية فنجد القرن الصغير، 666، رجسة الخراب، بابل الزانية، راكب الفرس الأبيض، وأسماء أخرى. ويضيف المفسرون أسماء أخرى مثل الراعي الباطل (زكريا 11: 16-17) والقرن الصغير للحيوان الرابع (دانيال 7: 7-8؛ 24-25) والقرن الصغير للحيوان الثاني (دانيال 8: 9-12). [10[ لهذا علينا العودة إلى المصادر الموثوقة، أي إلى الكتاب المقدس.
العودة إلى المصادر الموثوقة: الكتاب المقدس
وتتراكم المخاوف في ضوء انتشار الذكاء الاصطناعي والشرائح الالكترونية. فماذا سيفعل المؤمن المدقق في ضوء هذا التشويش؟ هل نذهب إلى أفلام (Left Behind) لنكتشف إرادة الله؟! هل نترك الساحة للمنجمين والمنجمات وننجرف بكل تيار تعليمي؟! أليس الخيار الأفضل هو دراسة كتابنا المقدس؟ ولهذا من الضروري أن نعود إلى المصادر الموثوقة قبل اتخاذ القرارات وقبل الوصول إلى الاستنتاجات. وأهم مصدر هو الكتاب المقدس لا سيما العهد الجديد. [11] ونستطيع أن نحصر أهم قضايا النقاش في أربعة أماكن في العهد الجديد وهي رسالة يوحنا الأولى (2: 18 مرتان، 22؛ 4: 3)، رسالة يوحنا الثانية (1: 7)، رسالة تسالونيكي الثانية، وسفر الرؤيا (13؛ 19: 20). [12]
1. رسائل يوحنا: المفهوم الكتابي لضد المسيح
أَيُّهَا الأَوْلاَدُ هِيَ السَّاعَةُ الأَخِيرَةُ. وَكَمَا سَمِعْتُمْ أَنَّ ضِدَّ الْمَسِيحِ يَأْتِي، قَدْ صَارَ الآنَ أَضْدَادٌ لِلْمَسِيحِ كَثِيرُونَ. مِنْ هُنَا نَعْلَمُ أَنَّهَا السَّاعَةُ الأَخِيرَةُ. مِنَّا خَرَجُوا، لكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لكِنْ لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَكُمْ مَسْحَةٌ مِنَ الْقُدُّوسِ وَتَعْلَمُونَ كُلَّ شَيْءٍ. لَمْ أَكْتُبْ إِلَيْكُمْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ الْحَقَّ، بَلْ لأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَهُ، وَأَنَّ كُلَّ كَذِبٍ لَيْسَ مِنَ الْحَقِّ. مَنْ هُوَ الْكَذَّابُ، إِلاَّ الَّذِي يُنْكِرُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ؟ هذَا هُوَ ضِدُّ الْمَسِيحِ، الَّذِي يُنْكِرُ الآبَ وَالابْنَ. كُلُّ مَنْ يُنْكِرُ الابْنَ لَيْسَ لَهُ الآبُ أَيْضًا، وَمَنْ يَعْتَرِفُ بِالابْنِ فَلَهُ الآبُ أَيْضًا (1 يوحنا 2: 18-23).
المكان الوحيد في الكتاب المقدس الذي نجد فيه مصطلح "ضد المسيح" هو في رسالتي يوحنا الأولى والثانية. ومدلول الكلمة اليونانية الأصلية انتيخريستوس (άντίχριστος) يحتمل معنيين. المعنى الأول هو عدو المسيح أو المعادي للمسيح أو ضد المسيح، أما المعنى الثاني فهو بديل المسيح أو الشخص الذي يأخذ مكان المسيح. فماذا نستطيع أن نتعلم عن "ضد المسيح" من طيات الوحي المقدس في رسائل الرسول يوحنا؟
من الضروري أن ننتبه للسياق. يتحدث الرسول يوحنا عن مجموعتين من الناس: الذين بقوا والذين تركوا. فنحن نتحدث عن انشقاق في الكنيسة المرئية في القرن الأول ويتعلق الانشقاق بقضية كريستولوجية تؤثر على الحياة المسيحية [13] وثمة دلائل تاريخية تربط الجماعة المنشقة مع كيرنثوس (50-100 م) وتعاليمه التي تتشابه مع بعض تعاليم الغنوصية. [14] أدان الرسول يوحنا تعاليمه وتحاشاه. ويخبرنا بوليكاربوس أن الرسول يوحنا ذهب للاستحمام في حمام في أفسس وعندما علم أن كيرنثوس هناك ركض خارجا دون أن يستحم قائلاً: لنهرب من هنا لئلا تقع جدران الحمام فوق رؤوسنا بسبب وجود كيرنثوس عدو الحق.[15] تحدى الرسول يوحنا تعاليم كيرنثوس عندما وجه كلماته لأهل الكنيسة مستخدما المصطلح "أما أنتم" (آ 20، 24، 27). ولهذا نستطيع أن نقول أن كيرنثوس وجماعته هم أضداد المسيح بحسب السياق التاريخي. ويبدو أن كيرنثوس يشوه هوية المسيح ودوره. ونستطيع أن نتعلم عدة أمور من رسائل يوحنا لاسيما في موضوع ضد المسيح. وسأشارك معكم أربع ملاحظات.
أولا، ينبهنا الرسول يوحنا أنه لا يوجد ضد واحد للمسيح بل أضداد للمسيح إذ يقول: قد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون (1 يوحنا 2: 18). فهم كثيرون. ويؤكد لنا أن كثرة الأضداد والبدائل عن المسيح هي من علامات الأيام الأخيرة، بل الساعة الأخيرة. لهذا لا نستطيع أن نفترض أنه يوجد ضدٌّ واحدٌ للمسيح في آخر الزمان لأن هذا يتناقض مع تشديد يوحنا أن آخر الزمان أو الساعة الأخيرة في القرن الأول وأن كثرة الأضداد هي العلامة وليس وجود ضدٌ واحد. والكثرة واضحة في صيغة الجمع إذ يقول عنهم: "منّا خرجوا لكنهم لم يكونوا منا لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا لكن ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم منا" (1 يوحنا 2: 19). وعندما يتحدث النص عن "ضد المسيح" بالمفرد فإنه يصف المبدأ الذي يجعل كلَّ من يتصرف بهذه الطريقة ضداً للمسيح. فالتركيز هو على تجسد الشر في البشر. فمقاومة البشر للمسيح ووقوفهم أضداداً له يعكس سيطرة الشر على حياتهم. بالإضافة إلى ذلك، وجود بدائل عن المسيح في حياة الإنسان أو الجماعات البشرية هي تعبير آخر لمفهوم ضد المسيح. وهذان التعبيران موجودان في القرن الأول لكنهما موجودان أيضا عبر العصور في حياة الأفراد والجماعات.
ثانياً، يؤكد لنا الرسول أن أضداد المسيح غير منحصرين في المستقبل البعيد أو في الضيقة العظيمة بل هم موجودون في القرن الأول إذ يكتب في القرن الأول قائلا: قد صار الآن أضدادٌ للمسيح. الآن تعني زمن كتابة النص والزمن الذي عاش فيه الرسول يوحنا أي القرن الأول. وهم جماعة انتمت للكنيسة ظاهرياً لكنهم أنكروا أن الإنسان يسوع هو المسيح الموعود ولم يعترفوا بابن الآب. ويضيف قائلا: كل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد، فليس من الله وهذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم به أنه يأتي، والآن هو في العالم" (1 يوحنا 4: 3). لاحظوا معي إعادة استخدام كلمة الآن التي تدل على أن ضد المسيح يمثل كياناً موجوداً في القرن الأول. ولقد رأينا كيف أن كتاب "ضد الهراطقة" يضع كيرنثوس وأتباعه في نفس السياق التاريخي ويجعلهم أعداء للحق. ونستطيع القول إنهم أضدادُ المسيح.
ثالثاً، لا تربط رسائل يوحنا "ضد المسيح" أو أضداد المسيح مع الوحش في سفر الرؤيا ولا مع إنسان الخطية في تسالونيكي الثانية. فيجب عدم التسرع بربط الخيوط بل بدراسة كل نص على حدة وتبرير التواصل اللاهوتي مع تقديم الأدلة الكافية وليس مجرد افتراض التواصل بين هذه النصوص. ومن الواضح أن رسائل يوحنا لا تربط ضد المسيح بشخصية مستقبلية أو شخصية سياسية من خارج الأطر الكنسية بل بشخصيات دينية كنسية في القرن الأول. فهم منا لكنهم بدون مسحة القدوس. وهم يمثلون توجها دينيا منحرفا لا ينحصر بشخص واحد أو حتى بزمان واحد أو بعصر واحد. ويشجعنا الرسول يوحنا أن نمتحن الأرواح لنعرف إن كانت من الله. فكل روح يعترف بيسوع المسيح أنه جاء في الجسد هو من الله أما كل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله. وهذا هو روح ضد المسيح (1 يوحنا 4: 1-3). بكلمات أخرى، إن حضور ضد المسيح لا ينحصر بإنسان واحد بل يمتد من خلال تعاليم تناقض تعاليم المسيح وروحه. البوصلة الروحية هي الالتزام بهوية السيد المسيح وبتعاليمه وعكس ذلك هو من روح ضد المسيح.
رابعاً، إن التحدي اليوحناوي يربط عقيدة ضد المسيح مع مبدأين وهما الارتداد والهرطقة. يتحدث يوحنا عن أناس انشقوا عن الكنيسة وارتدوا عن الإيمان الصحيح. ويحذرنا من ترك جماعة الإيمان. فليس كل من يدخل الكنيسة سيبقى فيها. وليس كل من ينتمي لجماعة الإيمان سيستمر ولاؤه للرب وشعبه. من ناحية ثانية، يحذرنا الرسول من تفشي التعليم المنحرف في فكرنا وسيطرة الهرطقة على معتقدنا وسلوكنا. ويحدد الرسول هوية السيد المسيح بوصلةً للإيمان الأرثوذكسي القويم. فمن يعترف به ومن يعرفه على حقيقته ومن يعيش في ضوء عمله يصير بالاتجاه السليم. هو المسيح الذي انتظرته الأجيال وطريق الخلاص والتحرر من الخطيئة. هو ابن الآب المتفرد الذي لا نظير له. إنكارُهُ انكارٌ للهِ ورفضٌ للآب وتشويهٌ لهويةِ الله. فمن يعرف الابنَ يعرف الآبَ. ومن ينكر الابن ينكر الآب.
دروس وتطبيقات
علينا أن نواجه خطرين: خطر الارتداد عن الإيمان وخطر الانحراف عن الإيمان أو الهرطقة. نواجه خطر الارتداد بالتمسك بشعب الرب وبالتعليم الرسولي الذي استملناه في الوحي المقدَّس. ونواجه خطرَ الانحراف والهرطقات بالتَّأكيد على مركزية هوية وعمل السيد المسيح في معرفة الآب. أما تعاليم ضدّ المسيح فهي تعاليمٌ تبعدنا عن وحدة شعب الرب وعن مركزية يسوع المسيح.
في ضوء رسائل يوحنا، يجب ألا نبدأ بالبحث عن ضدّ المسيح خارج الكنيسة الجامعة بل داخلها. فالكتاب يُعلّمنا أنَّهم منَّا خرجوا لكنَّهم ليسوا منَّا. ويجب ألا نبدأ بالتركيز على الأحداث السياسية لعقيدة ضد المسيح بل على طهارة ونقاء الإيمان. فنحن نواجه خطرَ الهرطقات كما واجهها الرسولُ يوحنا. فمن ينكر المسيحَ في أيِّ عقيدةٍ ينكرُ الآب والابن في تلك العقيدة. ونواجه أيضاً خطرَ الارتداد إذ يبدأ الارتدادُ بالتخلي عن الرب وعن شعبه وبالكفر والتمرد على الرب وعلى شعبه. ويحصل الارتداد بسبب قساوة القلب والاضطهاد والانخداع بالتعاليم الباطلة والسقوط الأخلاقي وعدم وجود علاقة حقيقية مع الرب. العلاقات الروحية السطحية فخاخٌ شيطانية ستنفجر في وجوه المتكاسلين الذي يتباطؤون عن النمو في الإيمان المفكر.
ونستطيع تحدي الهرطقات والارتداد بواسطة تعميق علاقتنا مع الرب ونقلها إلى مستوى أفضل بواسطة وسائط النعمة (قراءة الإنجيل، الصلاة، طاعة الفرائض، طاعة الرب، خدمة الرب مع المجتمع أو في الكنيسة، العطاء، الانتماء والمشاركة الفعّالة مع جماعة الإيمان، التوبة المستمرة، التعلم والتعمق في العقائد المسيحية، الخ). فمن يريد أن يكون مُحصّنا ضد روح ضد المسيح عليه أن يتسلح بالمسيح ويتعمق فيه مُستخدما كل وسائط النعمة المُتاحة لنا.
4) For studying the history of the doctrine of Antichrist, see Bernard McGinn, Antichrist: Two
6) See William Weinrich, “Antichrist in the Early Church,” Concordia Theological Quarterly 49 (1985): 135-147.
8) Riddlebarger, 181 of 269.