• رسامة المرأة بين التحرريّة والرجعيّة - القس د. رياض قسيس
رسامة المرأة بين التحرريّة والرجعيّة - القس د. رياض قسيس

في السنوات القليلة الماضية برز موضوع رسامة (أو سيامة) المرأة إلى الواجهة في عالمنا العربي خاصة بعد رسامة إلى رتبة القسوسيّة أربع نساء في لبنان وامرأة في سوريا وحديثاً جداً رسامة فتاة شابة في فلسطين. لاحظت مؤخراً أنّ وسائل التّواصل الاجتماعي قد ضجّت بمناقشة هذا الموضوع بين مؤيد ومعارض، ولا شكّ أنّ مثل هذا الموضوع سبّب اتخاذ البعض مواقف قاسية ومحرجة لا بل مؤذية للطرف الآخر. لا أود في هذا المقال القصير مناقشة هذا الموضوع، ولكن جلّ ما أتمنّاه هو الابتعاد عن تصنيف موقف مؤيدي عدم رسامة المرأة بالرّجعيّة، أو اتّهام موقف مؤيدي رسامة المرأة بالتّحرريّة.

من مشكلاتنا في عالمنا العربي أنّنا لم نعتاد على أصول فن الحوار الذي ينبغي أن يترافق مع فن الإصغاء، ولذلك في الكثير من حواراتنا إمّا أن نحاول وضع كلامنا في فم الذي نحاوره، أو نفتّش على السبل الكفيلة ليظهر بموقف الضعيف، وبالتالي إخجاله أملاً بإسكاته. يعبّر الدكتور سامح حنا، رئيس قسم الدراسات العربية والإسلامية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة ليدز، المملكة المتحدة، عن هذه المشكلة ويقترح بعض الحلول لها:

ستجد معظم من يدافعون عن آرائهم ومواقفهم يستخدمون نبرة حادة يغلب عليها "الجعجعة" البطولية التي لا تستهدف القضايا المطروحة للنقاش بعيدًا عن الشخصنة. والمؤسف في الأمر أن الكثير من هذه الحوارات (التي يفترض أنها حول قضايا لاهوتية) لا تدل – في لغتها ونبرتها – على سعي نحو الحقيقة بقدر السعي نحو تسجيل النقاط ضد الخصوم وأحيانًا ذبحهم معنويًا. لكن دعني أستدرك هنا بالقول إن علاج هذه الفوضى ليس بمنع الكلام أو نصب المحاكمات لمن يتكلمون. نحن لم نعرف كيف نمارس الديمقراطية في حياتنا المدنية ولا في أنشطتنا الكنسية ولم نتعلم آداب التفاوض. السوشيال ميديا كشفت هذا العجز، وأظنها كفيلة بمرور الوقت أن تعلمنا، بالمحاولة والخطأ، كيفية تحسين جودة التفاوض. الأمر الثاني أننا نحتاج إلى وضع نماذج تحتذى في المجتمع وفي المؤسسات الدينية وداخل الكنيسة. وهنا على الرعاة والقسوس والخدام دور ومسئولية كبيرين في هذا الصدد.[1]

 

يؤسفني الأمر الواقع وتحزنني الممارسة المتشنّجة التي تكثر في الأوساط الكنسية وخاصة الإنجيلية منها. في محاضرته عن "الأسس الكتابية واللاهوتية للوحدة المسيحية" عبّر الدكتور جورج صبرا بكل وضوح وصراحة عن السبب الجوهري لعدم تحقق الوحدة المسيحية، وما قاله عن المسيحيين عموماً ينطبق على الإنجيليين خصوصاً:

ما زلنا بعيدين عن فعل المحبة هذا [في إشارة إلى ما جاء في رسالة الرسول بولس إلى أهل فيلبي ٢: ٢-١١] الذي يحقق الوحدة لأننا لم نزل نعتز فقط بتراثنا الأرثوذكسي ونصر حصراً على مركزية كاثوليكية ونتمسك فقط بتفاسيرنا الإنجيلية للكتاب المقدس. نبشر بإنجيل المسيح كل يوم، نكرز بالتجسد وإفراغ الذات ولكن لا نطبقه على انتمائنا الطائفي، وكل ذلك باسم المحافظة على تراثنا وعلى هويتنا. فننسى بأن هويتنا لا تُكتسب إلا بتجردنا من أنفسنا، إلا بخسارة هويتنا. المسيح أفرغ ذاته من هويته الإلهية فحقق ذاته فعلاً، أخلى نفسه من الألوهية ونحن لا نرضى أن نخسر حتى الأمور الثانوية المتعلقة بطائفتنا وكنيستنا وتراثنا. [2]

 

هل نستطيع أن نعتمد الحوار "كفن ديمقراطي" و"أسلوب حياة"؟ [3]، وأن ندرك "أنّ اختلاف الرأي والفكر بركة إن كان موضوعياً لأنه يثري الحياة، ويوسّع دائرة المعرفة، ويعطي آفاقاً جديدة." [4] من الملاحظ عموماً أنّ الأشخاص الذين يتمتعون بالقدرة على حوار راقٍ يعوزهم تمسك قوى باعتقاداتهم، وأولئك الذين يتمسكون بقوة باعتقاداتهم تعوزهم القدرة على القيام بحوار راقٍ. [5] لا يعني الحوار الراقي عدم تبنّي فكر محدّد والتمسك به وفي الوقت ذاته احترام الفكر الآخر. ومن الضرورة بمكان للوصول إلى حوار راقٍ ولائق الابتعاد عن الميل لإخبار الآخرين بما يعتقدون به، وافساح المجال الكافي للإصغاء لهم والاستماع إليهم ليخبرونا هم بما فعلاً يعتقدون به. [6]

تتمايز الكنائس الإنجيليّة الكتابيّة والتّاريخيّة بالتّنوع والتعدديّة، فهل نتمكن من تقدير قيمة هذه التعدديّة وتوجيهها لتحقيق ملكوت الله على الأرض كما هو في السّماء! ربّما الأجدى بنا أن نبحث عن الأمور التي تجمعنا بدلاً من الاتهامات الجزافية المبنية في بعض الأحيان على افتراضات مسبقة. هل نستطيع أن نجد أرضيّة مشتركة تجمعنا وعلى أساسها نتفق على عدم الاتفاق، ونتعاون مع بعضنا رغم الاختلاف، ونحترم تعدد وجهات النظر دون الخوض في حروب ومعارك؟ يقول أحد الباحثين: "ماذا نفعل لنجعل الأمور أفضل حالاً؟ قد تقع في تجربة القول إنّه ينبغي البحث عن طرق تقلّل من عدم اتفاقنا، ولكن هذا غير صحيح... إنّ حاجتنا هي ليس أن نتفق على أمور قليلة، بل أنْ نُحسن الاختلاف." ويتابع الباحث نفسه معلّقاً على أهميّة عدم الاتّفاق والتّنوع التي تؤدي إلى المنافسة الشريفة وبالتالي الإبداع، والتّطور، ومعرفة الحقيقة. [7] قال أحدهم: "لله خيال لا سبر لغوره، فهو يحبّ التّنوع."[8]

عانت أوروبا من حروب عنيفة عرفت "بحرب الثلاثين عاماً" (١٦١٨-١٦٤٨) حيث لعب الدين دوراً أساسياً في إذكائها. وفي خضم هذه الحروب الدموية الطويلة حثّ اللاهوتي الألماني Rupertus Meldenius المسيحيين على أهمية الوحدة المسيحية في نبذة كتبها حوالي العام ١٦٢٧ جاء فيها:

 "في الأمور الجوهرية وحدة، وفي الثانوية حريّة، وفي كل الأمور محبّة." [9]

 

القس رياض قسيس، دكتور في الفلسفة وهو المدير الدّولي لهيئة علماء لاهوت لانغهام

 

 

[1] حوار في مجلة الطريق والحق، العدد ١٦٢، مارس ٢٠١٩. http://www.eltareeq.com/tareeq2010/pg_editorpage_id_r.aspx?ArID=114184&GrID=9&fbclid=IwAR075KO6VQTQkAC_mcGjfCvISkwywKlRVJ314WRGFWgcmOFfhjeZqZuQaCI، تمّت زيارة الموقع بتاريخ ٤ نيسان (أبريل) ٢٠١٩.

[2] جورج صبرا، في سبيل الحوار المسكوني: مقالات لاهوتية إنجيلية (بيروت: دار منشورات النفير: ٢٠٠١)، ص. ١٢٧.

[3] الدكتور صموئيل حبيب، فن الحوار (القاهرة: دار الثقافة، ١٩٩٥)، ص. ٤٥.

[4] القس عزت شاكر، الحوار أم الكارثة: حتمية الحوار الناجح في عصر التعددية (القاهرة: دار الثقافة، ٢٠١٠)، ص. ٣٨.

[5]  Martin E. Marty, By Way of Response (Nashville: Abingdon Press, 1981), p. 81.

[6] Richard J. Mouw, Uncommon Decency: Christian Civility in an Uncivil World (pp. 59-61). InterVarsity Press. Kindle Edition. Revised and expanded edition, 2010.

[7]  أنا مدين لزميلي الدكتور إيلي حداد للفت نظري لهذا المقال: A. R. Brooks, “Our Culture of Contempt.” The New York Times, March 2, 2019. https://www.nytimes.com/2019/03/02/opinion/sunday/political-polarization.html?fbclid=IwAR0c8qAsyNdZkAclw4DMMrPY3jHCqpy5eAKDIQkMNM91IPhDHmuY6bDMDUc. ، تمّت زيارة الموقع بتاريخ ٧ آذار (مارس) ٢٠١٩.

[8]  Richard J Mouw, Uncommon Decency: Christian Civility in an Uncivil World (p. 81). InterVarsity Press. Kindle Edition.

[9] https://www.ligonier.org/learn/articles/essentials-unity-non-essentials-liberty-all-things/، تمّت زيارة الموقع بتاريخ ١٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٩.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع