• ولا نفسي ثمينة عندي - بقلم : عصام نسيب عودة 
ولا نفسي ثمينة عندي - بقلم : عصام نسيب عودة  

"17 ومن ميليتس ارسل الى افسس واستدعى قسوس الكنيسة 18 فلما جاءوا اليه قال لهم: «انتم تعلمون من اول يوم دخلت اسيا، كيف كنت معكم كل الزمان،19  أخدم الرب بكل تواضع ودموع كثيرة، وبتجارب اصابتني بمكايد اليهود.... 24 ولكنني لست احتسب لشيء، ولا نفسي ثمينة عندي، حتى اتمم بفرح سعيي والخدمة التي اخذتها من الرب يسوع، لأشهد ببشارة نعمة الله ..... 28 احترزوا اذا لأنفسكم ولجميع الرعية التي اقامكم الروح القدس فيها اساقفة، لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه 29 لأني اعلم هذا: انه بعد ذهابي سيدخل بينكم ذئاب خاطفة لا تشفق على الرعية 30 ومنكم انتم سيقوم رجال يتكلمون بأمور ملتوية ليجتذبوا التلاميذ وراءهم 31 لذلك اسهروا، متذكرين اني ثلاث سنين ليلا ونهارا، لم افتر عن ان انذر بدموع كل واحد.".

 

هذا خطاب وداع بولس الرسول لقسوس الكنيسة، فيه يوصيهم بأساسات رعاية كنيسة الله التي اقتناها بدمه كما قال، ويعطيهم مثال خدمته كنموذج للرعاية السليمة التي هي بحسب قلب الله.

 

بولس يذكّر قسوس الكنيسة كيف كان أسلوب خدمته بينهم، ويُبرز ثلاثة أساسات في خدمته بينهم:

 

1) بكل تواضع،

2) دموع كثيرة،

3) بتجارب من مكايد اليهود.

 

1) التواضع:

 

كان بولس الرسول بمثابة "البطريرك" للكنائس في ذلك الوقت، وكانت كلمته مسموعة ونصيحته مقبولة في كنائس ذلك العهد، حتى إن بطرس الرسول نفسه كتب عن بولس قائلا:

"15 واحسبوا اناة ربنا خلاصا، كما كتب اليكم اخونا الحبيب بولس ايضا بحسب الحكمة المعطاة له، 16 كما في الرسائل كلها ايضا، متكلما فيها عن هذه الامور، التي فيها اشياء عسرة الفهم، يحرفها غير العلماء وغير الثابتين، كباقي الكتب ايضا، لهلاك انفسهم".

فإذا كانت هذه شهادة بطرس الرسول عنه، الذي كان حجر أساس في بناء كنيسة الرب، فكم وكم تكون قيمة بولس الرسول ومكانته وبالتالي اقواله المقتبسة في آيات وحي الكتاب في تأسيس كنيسة الرب.

ليس ذلك فقط، بل إن بولس الرسول معتبر عند العلمانيين كأحد الفلاسفة، ويتم تدريس كتاباته في المعاهد العليا.

هذا العلامة المؤمن التقي الذي فتن المسكونة بتعاليم المسيح والكتاب المقدس يفتتح عظته لقساوسة بدايات الكنيسة وأساساتها بأن أحد أعمدة خدمته كان مبنيا على التواضع، فهو لم يستعمل مركزه وسلطانه وشهرته وقوته لمصلحة نفسه او لمجده الذاتي او بالتباهي في شخصيته وإنجازاته ووساع معرفته، ولم يطلب المال أو الغنى الارضي او شراء الممتلكات والاستثمار في الارض، حتى أنه لم يطلب المال مقابل الخدمات التي كان يمارسها، بل قال لهؤلاء القساوسة في نفس العظة الوداعية:

" 33فضة او ذهب او لباس أحد لم اشته. 34 أنتم تعلمون ان حاجاتي وحاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان. 35 في كل شيء اريتكم انه هكذا ينبغي انكم تتعبون وتعضدون الضعفاء، متذكرين كلمات الرب يسوع انه قال: مغبوط هو العطاء أكثر من الاخذ".

 

نعم، بولس الرسول يؤكد ويشدد على موضوع التواضع في الخدمة، ومن الواضح أن موضوع التواضع يشتد صعوبة عند أناس وخدام في مركز وشخصية بولس.

2) دموع كثيرة:

هي العمود الثاني في خدمة بولس الرسول، وليس المقصود ندب الحظ والتذمر والتأفف، بل هي دموع الصلاة والتشفع لأجل النفوس والكنائس دون كلل أو ملل، حتى في أصعب الأوقات وأحلكها لغاية وصوله السجن، لم يستسلم ولم يكف عن متابعة الكنائس والاهتمام بنموها والصلاة لأجلها كي تكون كنيسة عفيفة طاهرة بحسب قلب الله.

3) مكايد من اليهود:

لماذا يؤكد أن المكايد من اليهود، ليس لأنه يكرههم بل كي يؤكد أن هذه المكايد والمؤامرات التي احيكت ضده هي من شعبه وأمته واخوته كون بولس نفسه يهوديا... فالهجومات من الخارج أسهل بكثير من الهجومات والمؤامرات والمكايد التي تأتي من داخل الكنيسة والعائلة والاصدقاء، وهذا ما حدث مع الرب يسوع عندما أُسلم من أحد تلاميذه الأكثر قربا له، بل عائلته، كما قال الرب لتلاميذه: "الاكل معي الخبز رفع علي عقبه"....

من هنا يحذرهم بولس في نفس العظة المقتبسة أعلاه من المعلمين الكذبة الذين شبههم بالذئاب الخاطفة التي لا تشفق على الرعية، لأن كل همها مصلحتها الشخصية وليس حبا في رعية الرب والنفوس الهالكة... وللأسف يقول لهم انه "منكم أنتم سيقوم رجال يتكلمون بأمور ملتوية ليجتذبوا التلاميذ وراءهم".

هذا أساس هام جدا في الخدمة بالذات للقساوسة ولرعاة الكنائس، أن تكون نوايا الأسقف والخادم صادقة ودوافعه نقية بهدف امتداد ملكوت المسيح وتمجيد الرب وليس لاجتذاب تلاميذ ورائهم أو لمصالح شخصية أرضية...

في نهاية عظته يقدم بولس لقسوس الكنيسة قارب الأمان الذي يمكنهم من خلاله حفظ حياتهم في أساسات الخدمة السليمة بأمرين أساسيين وهامين:

الأول عندما قال:

"32 والان استودعكم يا اخوتي لله ولكلمة نعمته، القادرة ان تبنيكم وتعطيكم ميراثا مع جميع المقدسين."

ان نكون دائما مستودعين في يدي الله، اي بالقرب منه وملتصقين فيه وفي كلمته الحية، وبالتالي سوف يكون بناء الخدمة سليما بحيث يأتي بالثمر والميراث السماوي مع جميع المقدسين.

اما الثاني فهو عندما أكد قائلا:

..."لست احتسب لشيء ولا نفسي ثمينة عندي حتى اتمم بفرح سعيي والخدمة التي أخذتها من الرب يسوع..."، فبولس يعتبر نفسه كلا شيء، اي ان في نفسه دائما حكم الموت، كما قال لأهل كورنثوس: "9 لكن كان لنا في انفسنا حكم الموت لكي لا نكون متكلين على انفسنا بل على الله الذي يقيم الاموات" (2 كو 1: 9)، وبالتالي فقد ملك المسيح بالكامل على حياته وخدمته، وهذا أساس في غاية الاهمية، بل هو القار الذي يحفظ هذا القارب من الاختلال والتزعزع وألّا ينتكب بالثقوب والثغرات التي قد تغرقه...

امين.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع