• الفرح وسط القيود: حوار بين الرسول بولس وفلسفة فيكتور فرانكل - خلوب قعوار
الفرح وسط القيود: حوار بين الرسول بولس وفلسفة فيكتور فرانكل - خلوب قعوار

الملخص

تتناول هذه المقالة مقارنة بين تجربة الرسول بولس في سجنه كما وردت في رسالة فيلبي، وفلسفة فيكتور فرانكل حول البحث عن المعنى في كتابه "Man’s Search for Meaning". كلاهما عاش ظروفًا قاسية اتسمت بالقيود والمعاناة، ومع ذلك توصّل كل منهما إلى بُعد داخلي يتجاوز الواقع الخارجي. يركّز فرانكل على "المعنى" بوصفه حرية داخلية لا يمكن سلبها، بينما يركز بولس على "الفرح في الرب" باعتباره ثمرة الاتحاد بالمسيح، مصدر الرجاء الحقيقي. تسعى المقالة إلى إبراز نقاط الالتقاء بين هاتين الرؤيتين من جهة، وبيان الفارق الجوهري في منطلقاتهما من جهة أخرى: بين معنى إنساني وهدف مستقبلي عند فرانكل، وفرح مسيحي متجذر في لاهوت الخلاص عند بولس. كما تُختتم المقالة بتطبيقات عملية تستلهم لاهوت بولس—الفرح في الرب، تحويل القلق إلى صلاة مع شكر، والاتكال على قوة المسيح—مع الإفادة من بصائر فرانكل حول المعنى، ليحيا القارئ رجاءً مسيحيًّا أصيلًا في واقعه المعاصر.

مقدمة

في عالمٍ مليءٍ بالتحديات والآلام، قد يبدو الفرح مطلبًا بعيد المنال. كيف يمكن للإنسان أن يحافظ على قلبٍ متهلل، فيما القيود تشتد من حوله والظروف تضيق عليه؟ هذا السؤال يفتح أمامنا نافذة على خبرتين إنسانيّتين عميقتين: الأولى روحية من حياة الرسول بولس في سجنه، والثانية وجودية من تجربة فيكتور فرانكل في معسكرات الاعتقال النازية.

ومنهج هذه المقالة يقوم على الجمع بين اللاهوت الكتابي والتحليل النفسي–الوجودي، بوصفه آلية بحث خصبة. فمثل هذا الحوار لا يهدف إلى خلط الحقول، بل إلى إغنائها المتبادل: إذ يتيح لعلم النفس أن يستلهم أبعادًا روحية ولاهوتية، ويتيح للاهوت أن يُقرأ في ضوء التجربة الإنسانية الحديثة، فيغدو أكثر التصاقًا بأسئلة الواقع.

 

الخلفية النظرية

تناولت دراسات عديدة مفهوم الفرح عند بولس، خصوصًا في رسالته إلى أهل فيلبي، والتي غالبًا ما تُسمى "رسالة الفرح (Fee, 1995; Silva, 2005). يشير الباحثون إلى أن بولس يربط الفرح ارتباطًا وثيقًا بالإيمان المسيحي، بحيث لا يُفهم كعاطفة وقتية، بل كحالة وجودية متجذرة في علاقة المؤمن بالمسيح القائم. يرى Hawthorne & Martin, (2018)  أن بولس كتب من السجن لا ليواسي نفسه فقط، بل ليقدّم شهادة عملية بأن الفرح يمكن أن يكون خيارًا روحيًا يتجاوز الظروف. كذلك يشير Hellerman (2015) إلى أن رسالة فيلبي تُظهر أن الفرح ينبع من "المشاركة في الإنجيل" أكثر من كونه حالة فردية.

أما كتاب فرانكل  Man’s Search for Meaning (1946)، فقد شكّل نقطة تحول في علم النفس الوجودي. فقد أكّد أن الدافع الأساسي للإنسان ليس اللذة (كما عند فرويد) ولا القوة (كما عند أدلر)، بل البحث عن معنى. وقد تطوّر هذا المنظور إلى ما يُعرف بـالعلاج بالمعنى  (Logotherapy) الذي يُستخدم اليوم في الممارسة الإكلينيكية لمعالجة الاكتئاب، فقدان الرجاء، والصدمة النفسية (Batthyány & Russo-Netzer, 2014). ويرى Wong (2013) أن فلسفة فرانكل ما تزال مؤثرة في علم النفس الإيجابي، حيث أصبح البحث عن معنى مكوّنًا جوهريًا في الرفاهية الإنسانية.
وبينما ركّزت الأدبيات السابقة على بولس أو فرانكل كلٌ في مجاله، لا توجد إلا محاولات محدودة لقراءة مقارنة بين الاثنين. بعض الدراسات الوجودية–اللاهوتية (Pattison, 2007) تلمّح إلى أن خبرة السجن والمعاناة قد تُظهر أوجه التقاء بين الفكر الديني والفلسفة الإنسانية. هذا المقال يسعى إلى سد هذه الفجوة، من خلال وضع خبرة بولس اللاهوتية في حوار مع فلسفة فرانكل الوجودية، لتسليط الضوء على إمكانيات تقاطع جديدة بين المعنى والفرح وسط القيود.

 

مقارنة لاهوتية–فلسفية: بين "المعنى" و"الفرح"

يلتقي فكر فرانكل مع تعليم بولس، وإن انطلق كلٌّ منهما من إطار مختلف. عند فرانكل، المعنى غاية إنسانية يكتشفها الفرد في عمله أو في محبته أو حتى في معاناته، وهو ما يمنح الحياة قيمتها ويجعل الإنسان قادرًا على الاحتمال. أما عند بولس، فالفرح ليس مجرد نتيجة لاكتشاف معنى ذاتي، بل هو ثمرة الاتحاد بالمسيح، الذي هو المعنى الأسمى والغاية النهائية للوجود. وهنا يبرز اختلاف جوهري: فبينما يرى فرانكل أن الإنسان يصنع معنى حياته عبر خياراته، يرى بولس أن الإنسان يجد معنى وجوده في المسيح الذي سبق فأحبّه ودعاه.

وإذا انتقلنا إلى زاوية أخرى من المقارنة، يتضح اختلاف إضافي في منظور كل منهما تجاه الفرد والجماعة. فرانكل يركّز على حرية الفرد واختياراته، ولا يتحدث كثيرًا عن دور الجماعة في مواجهة المعاناة الممنهجة التي تتطلب مقاومة الظلم وقلب الأنظمة الجائرة. أما بولس، ففي الوقت الذي يدعو فيه إلى احتمال الألم، فإنه يربط هذا الاحتمال برجاء جماعي، حيث يرى أن الخليقة كلها "تئن وتتمخض معًا إلى الآن" (رومية 8: 22)، وأن المؤمنين يشتركون معًا "في آلام المسيح" لكي يكون لهم رجاء مشترك في المجد (2كورنثوس 1: 5-7). وهكذا يتجاوز منظور بولس الصبر الفردي ليؤكد أن الألم يُعاش في إطار جماعة الإيمان، التي تتحول إلى شهادة تاريخية ضد قوى الشر، وإعلان عن "سماء جديدة وأرض جديدة" (رؤيا 21: 1).

ومع ذلك، هناك تقاطع مهم: كلاهما يشدد على أن الموقف الداخلي أقوى من الظروف الخارجية. فرانكل يؤكد أن "الحرية الأخيرة" هي حرية اختيار الموقف، بينما بولس يظهر أن الفرح في المسيح لا يمكن أن يُسلب حتى من وراء القضبان. كلاهما يعلّمان أن الألم ليس بلا جدوى، بل يمكن أن يصبح طريقًا إلى عمق إنساني وروحي أعظم.

وبتأمل أدق، نرى أن بولس اختار الفرح في الرب، فيما ركّز فرانكل على حرية الموقف. بولس رأى أن معاناته تمجّد المسيح (فيلبي 1: 21)، بينما رأى فرانكل أن المعاناة طريق إلى المعنى. بولس وجد قوته في الرجاء بالمسيح القائم، وفرانكل وجدها في أفق المستقبل. وكلاهما رفع المحبة إلى مرتبة سامية: بولس من خلال محبته للمسيح وللكنائس (فيلبي 4: 1)، وفرانكل عبر استحضار صورة زوجته كقوة للاستمرار.

ويضيف دوستويفسكي بُعدًا ثالثًا للحوار، إذ يرى أن الألم ليس مجرد تجربة سلبية، بل معبر إلى عمق روحي ومعرفي. في "الإخوة كارامازوف" و"الجريمة والعقاب" تتكرّر الفكرة أن الإنسان لا يتطهر ولا يتحرر إلا عبر الألم، وهو قريب من رؤية فرانكل، بل ويتقاطع مع لاهوت بولس حيث تصبح الآلام "شركة في آلام المسيح" تؤدي إلى المجد.

بين الرجاء الإنساني والرجاء المسيحي

  • بولس في السجن: فرح يتجاوز القيود

كتب بولس رسالته إلى أهل فيلبي وهو مقيَّد بالسلاسل ومهدَّد بالموت، ومع ذلك يدوّي صوته بالدعوة: "افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضًا: افرحوا" (فيلبي 4:4). هذا ليس فرحًا سطحيًا معلّقًا على تبدّل الظروف، بل فرحٌ متجذّر في الرب نفسه؛ إذ يرى بولس أن حياته كلّها—ألمًا ورجاءً—هي "في المسيح". لذلك يحوّل السجن إلى فرصة لإعلان الإنجيل، وتغدو القيود شهادة للمسيح لا عائقًا لرسالته (فيلبي 1:12–14). ومن هذا المنبع يكتب أيضًا: "لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح" (فيلبي 1:21).

غير أن قراءة شاملة لرسائل بولس تكشف طيفًا واسعًا من الخبرات: من الحزن واليأس (2كورنثوس 1:8؛ رومية 9:2) الى الرجاء والفرح (فيلبي 4:4). لقد عبّر عن ضيق حتى قال: "أفرطنا جدًا فوق الطاقة حتى أيسنا من الحياة أيضًا" (2كورنثوس 1: 8)، لكنه في الوقت نفسه شدّد أن رجاءه لم يُنتزع، بل تجدد من خلال الإيمان. وبالتالي، اختيار رسالة فيلبي في هذا المقال ليس إنكارًا لبقية اختبارات بولس، بل تركيزًا مقصودًا لتسليط الضوء على الفرح باعتباره موقفًا لاهوتيًا مميّزًا، يستحق التأمل.

كما أن التزام بولس بالألم لا يُختصر في "التألم مع المسيح" بصورة روحية فحسب، بل يتجلى أيضًا في اختبار جسدي يُعاش ضمن الجماعة. فهو يكتب: "أفرح الآن في آلامي لأجلكم، وأُكمّل نقائص شدائد المسيح في جسدي لأجل جسده الذي هو الكنيسة" (كولوسي 1:  24). وهنا يتضح أن الألم عند بولس ليس مجرد تجربة فردية، بل خبرة جماعية يشترك فيها جسد المسيح كله. بهذا المعنى، الألم عند بولس هو التزام جماعي بعيش روحانية الصليب، وليس مجرد احتمال شخصي.

ولأن الفرح المسيحي ليس انكفاءً عاطفيًا، بل قوة أخلاقية واجتماعية، يطلب بولس أن يفيض هذا الفرح حِلمًا ورقّة في العلاقات: "ليَكُنْ حِلْمُكُمْ مَعْرُوفًا عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ. الرَّبُّ قَرِيبٌ" (فيلبي 4: 5). فوعي قرب الرب يحرّر القلب من ردّات الفعل المتشنّجة، ويثبّت الفرح لأنه يستند إلى حضور المسيح فينا ورجاء مجيئه الذي يتمّم مقاصده فينا.

ثمّ ينتقل بولس إلى محور الحياة الباطنية: "لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ,  وَسَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (فيلبي 4: 6-7). ما الذي يقلقنا—أولادنا، بيوتنا، أعمالنا؟ نصيحة الرسول واضحة: نحوِّل القلق إلى صلاة، وننسج صلواتنا بخيط الشكر، كما يكتب كاتب المزامير: "باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته" (مز 103: 2). حينئذٍ يُعطى لنا سلامٌ لا يقوم على "تفكير إيجابي" ولا على انعدام الصراعات، بل على يقين سيادة الله، وثبات انتمائنا إلى ملكوت المسيح (فيلبي 4: 3)، ووضوح نصرتنا على الخطيّة فيه.

ويكتمل هذا المسار في مدرسة القناعة والقوة: "لَيْسَ أَنِّي أَقُولُ مِنْ جِهَةِ احْتِيَاجٍ، فَإِنِّي قَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا أَنَا فِيهِ… أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي" (فيلبي 4: 11–13). فالقناعة هنا ليست استسلامًا بل ثقة عملية في مواعيد الله لتسديد الاحتياج، واتّكالٌ واعٍ على قوة المسيح. وهكذا يصبح تسلسل بولس منطقيًا: من تحويل القلق إلى صلاة، إلى نيل السلام الحافظ، إلى انبثاق قوّة الاحتمال والعمل؛ فرحٌ يُرى، وسلامٌ يُحَسّ، وقوةٌ تُمارَس "في المسيح".

  • فرانكل في المعتقل: البحث عن المعنى وسط الألم

بعد نحو ألفي عام، وجد الطبيب النفسي فيكتور فرانكل نفسه في معسكر اعتقال نازي، محرومًا من كل ما يملك. ومع ذلك كتب لاحقًا في كتابه الشهير: Man’s Search for Meaning، "كل ما يمكن سلبه من الإنسان، إلا شيئًا واحدًا: آخر الحريات الإنسانية – اختيار الموقف في أي مجموعة من الظروف". بالنسبة له لم يعد السؤال: "لماذا أنا؟" بل "كيف أختار أن أواجه ما يحدث؟". لقد اكتشف أن المعنى يمكن أن يوجد حتى في الألم، وأن من يجد سببًا يعيش من أجله يستطيع أن يحتمل أي "كيف".

وقد لاحظ فرانكل في المعتقل أن بعض السجناء انهاروا أخلاقيًا بينما حافظ آخرون على إنسانيتهم، ما دلّ على أن القرارات لا الظروف هي التي تحدد مصير الإنسان. ومن هنا ربط بين المعنى والمعاناة، مؤكدًا أن الألم ليس بلا جدوى: "إذا كان للحياة معنى، فلا بد أن يكون للمعاناة معنى أيضًا"، فالمعاناة تتوقف عن كونها عبئًا حين تُعاش كتضحية أو فرصة للتسامي. واستشهد بقول نيتشه: "من يملك سببًا يعيش من أجله، يمكنه أن يتحمل أي وسيلة للعيش"، ليؤكد أن وجود "لماذا" يمنح القدرة على تحمّل أي "كيف".

كما بيّن أن الإنسان يعيش على قوة تطلّعه إلى المستقبل: "إنه لا يستطيع أن يعيش إلا بالتطلع إلى المستقبل". ويرفع فرانكل الحب إلى ذروة الخلاص، معتبرًا أن الخلاص الحقيقي يتم بالحب ومن خلاله: "إن خلاص الإنسان هو من خلال الحب وفي الحب". وإلى جانب ذلك وضع المسؤولية في مركز الوجود، فالحياة لا تسألنا عن معناها بقدر ما تسائلنا نحن عن الاستجابة لها بأفعالنا وخياراتنا. وأخيرًا ميّز بين الهدف المباشر والنتيجة الجانبية فيما يخص النجاح والسعادة، موضحًا أن من يطاردها مباشرة غالبًا ما يخيب، بينما تتحقق هذه القيم كنتائج جانبية لمسيرة مكرّسة لقضية أو غاية أسمى من الذات.

يؤكد فيكتور فرانكل أن النجاح، مثل السعادة، لا يمكن مطاردته مباشرة، بل يأتي كنتيجة جانبية للتفاني في قضية أعظم من الذات. إذا جعل الإنسان النجاح أو السعادة هدفًا مباشرًا يسعى وراءه، فإنه في الغالب لن يصل إليه؛ لأن التفكير المفرط في النجاح أو في السعادة يولّد قلقًا وإحباطًا عند غياب النتائج السريعة. بينما إذا كرّس الإنسان نفسه لقضية أو هدف أعظم من ذاته (مثل خدمة الآخرين، رسالة إنسانية، أو عمل له قيمة)، فإن النجاح والسعادة سيأتيان تلقائيًا كنتيجة جانبية (by-product) لهذه المسيرة.

الرؤية المسيحية تتقاطع مع فرانكل في أن السعادة والنجاح لا يُطلبان مباشرة، بل يُعاشان كنتيجة لحياة مكرسة لغاية أسمى. لكن اللاهوت المسيحي يضع هذا البعد في إطار أوسع: غاية الإنسان النهائية ليست مجرد خدمة أو رسالة، بل الاتحاد بالمسيح نفسه. يقول المسيح: "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم" (متى 6: 33). أي أن النجاح والبركات تأتي كنتائج جانبية لطاعة الله وطلب مشيئته، وليس كأهداف مستقلة بحد ذاتها.

وبولس الرسول يجسد هذا المنطق حين يكتب: "لأني قد تعلمت أن أكون مكتفيًا بما أنا فيه… أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (فيلبي 4: 11–13). فالقناعة والرضا ليستا ثمرة سعي مباشر وراء "السعادة"، بل نتيجة جانبية للاتكال على المسيح والعيش لهدف أعظم من الذات. بهذا يلتقي فكر بولس مع فرانكل في الشكل، لكنه يتجاوزه في الجوهر: إذ يجعل المسيح نفسه غاية المعنى، ومصدر النجاح الحقيقي الذي لا يزول.

تلاقي الرؤيتين واختلاف المنطلق

الحرية الداخلية – الظروف لا تحدد الفرح أو المعنى بل الموقف الداخلي والاتجاه الروحي. تلتقي رؤية بولس مع فلسفة فرانكل في التأكيد أن الظروف لا تُحدِّد المصير، بل الموقف الداخلي هو الحاسم. بولس يرى الفرح خيارًا روحيًا في المسيح، بينما فرانكل يعتبره  حرية داخلية ومعنى يُكتشف حتى في الألم. بولس يختار الفرح "في الرب" حتى خلف القضبان، إذ كتب: "افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضًا: افرحوا" (فيلبي 4:4). أما فرانكل فيعلن أن حرية اختيار الموقف هي آخر الحريات الإنسانية بقوله "يمكن سلب كل شيء من الإنسان إلا شيئًا واحدًا: حرية اختيار موقفه تجاه أي ظرف".

المعاناة كطريق للمعنى – من يملك "لماذا" يمكنه تحمل أي "كيف". كلاهما يمنح المعاناة دورًا تكوينيًا: عند فرانكل تتحوّل إلى معنى يُحتمل، وعند بولس تصير شركة تمجّد المسيح "لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح" (فيلبي 1: 21).

التركيز على المستقبل والرجاء الذي يتجاوز اللحظة الحالية. كما يشتركان في التوجّه نحو المستقبل، فرانكل على أفق الهدف الانساني، وبولس على الرجاء بالمسيح والقيامة: "ولكنني أفعل شيئًا واحدًا: أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام" (فيلبي 3: 13).

المحبة كمصدر قوة. ويلتقيان أيضًا في اعتبار المحبّة مصدر قوة: عند فرانكل "الخلاص بالحب وفي الحب"، وعند بولس محبته للمسيح وللكنائس التي يدعوها: "يا إخوتي الأحباء والمشتاق إليهم، يا سروري وإكليلي" (فيلبي4: 1). ويضيف دوستويفسكي صوته في هذا السياق حين يكتب في الإخوة كارامازوف:" إنني أؤمن أن المعاناة وحدها هي التي تجعل الإنسان جديرًا بالحب"، مؤكدًا أن الألم هو الطريق إلى العمق الروحي والحرية الداخلية.

النجاح والسعادة كنتيجة جانبية. يرى فرانكل أن من يطارد السعادة أو النجاح مباشرة يخيب، بينما تتحقق هذه كنتيجة جانبية للتفاني في غاية أسمى. أما اللاهوت المسيحي فيؤكد: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم» (متى 6: 33). وبولس كتب: «لأني قد تعلمت أن أكون مكتفيًا بما أنا فيه… أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني» (فيلبي 4 :11–13). النجاح والسعادة في الإيمان هما ثمار جانبية لحياة متجذرة في المسيح لا في الذات.

الفرق الجوهري: مصدر المعنى والرجاء

أما الفرق الجوهري فيكمن في مصدر المعنى؛ فعند فرانكل يتأسس الرجاء على فعل إنساني خالص، حيث يُنتجه الفرد من خلال موقفه الحر وقدرته على توجيه ذاته نحو هدف أو رسالة تعطي لحياته معنى. في المقابل، يرى بولس أن الرجاء ليس نتاجًا لإرادة الإنسان وحدها، بل عطية لاهوتية متجذرة في المسيح القائم الذي يفتح أفقًا أبديًا يتجاوز حدود الزمن. فبينما يصرّ فرانكل على أن الرجاء هو ثمرة الحرية الداخلية في مواجهة الظرف الخارجي، يكتب بولس: "لأننا بالرجاء خَلَصنا. ولكن الرجاء المنظور ليس رجاءً، لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضًا؟ ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر (رومية 8: 24–25).

هنا يتضح البعد الفلسفي المقارن: فرانكل ينطلق من منظور وجودي يعتبر الرجاء فعلاً بشريًا مشروطًا بالزمن والغاية، بينما بولس يؤسس لرؤية لاهوتية ترى في الرجاء مشاركة في الخلاص الإلهي، رجاء بما هو غير منظور بعد. وفي كلا الرؤيتين، يظل الرجاء طاقة مقاومة للألم، لكنه عند بولس يتحوّل إلى قوة متجددة بالاتكال على الله، كما يعبّر إشعياء: "أما منتظروا الرب فيجددون قوة. يرفعون أجنحةً كالنسور. يركضون ولا يتعبون. يمشون ولا يعيون" (إشعياء 40: 31). وهكذا يمكن القول إن الرجاء عند فرانكل يعبّر عن موقف وجودي يصوغ المعنى داخل التاريخ، بينما الرجاء عند بولس يشير إلى أفق خلاص أبدي يرسخ المعنى في الأبدية.

 

خاتمة عملية: معنى وفرح لحياتنا اليوم

إن ما يجمع بين خبرة بولس وفرانكل يتجاوز التاريخ ليبلغ حياتنا الراهنة. ففي زمن تتكاثر فيه الضغوط النفسية والاقتصادية والاجتماعية، يظلّ السؤال حاضرًا: كيف نعيش الفرح والمعنى وسط التحديات؟ تكشف الخبرتان أن الحرية الداخلية، والمعنى في الألم، والمحبة ليست أفكارًا نظرية، بل دعوة عملية؛ إذ يستطيع الإنسان أن يختار موقفه، وأن يرى في الألم فرصة للنمو، وأن يتطلّع إلى المستقبل برجاء، وأن يجد في المحبة—وفي المسيح على نحوٍ أعمق—المعنى الحقيقي. وهكذا يصير الفرح خيارًا روحيًا، ويغدو المعنى دعوة يومية، ويفتح الاثنان معًا أفق "السَّلامِ الَّذي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل" (فيلبي 4: 7).

ومع أنّ منظور فرانكل يذكّرنا بحرية القرار والمسؤولية والحب، فإن بولس يهب للمعنى جذورًا أرسخ: فمصدر الفرح ليس ذات الإنسان ولا قوة الإرادة فحسب، بل حضور المسيح القائم الذي يقتحم القيود ويملأ القلب سلامًا. عمليًا، ترسم فيلبي 4 ملامح هذا الطريق حين تدعونا إلى أن يكون حِلمُنا معروفًا لأن "الرَّبُّ قَرِيبٌ" (فيلبي 4: 5)، وأن نحوِّل القلق إلى صلاة مع شكر فنختبر سلام الله الحافظ للقلوب والأفكار (فيلبي 4: 6-7)، وأن نتدرّب على القناعة والاتكال على قوة المسيح فنقول معه: "أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي" (فيلبي 4:13). هنا يتجاوب منظور المعنى عند فرانكل مع الدعوة المسيحية، لكن الفرح يكتمل حين يتأسّس في المسيح نفسه، فتغدو الممارسات الروحية قناة لنعمة تُبدّل الداخل، وتحوّل الألم إلى شهادة، والقلق إلى سلام، واليوميات إلى خدمة ذات معنى. وهكذا نختم مع الرسول: "نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَعَ جَمِيعِكُمْ" (فيلبي 4:23).

 

 

المراجع

الكتاب المقدس. رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي.

  • Batthyany, A., & Russo-Netzer, P. (Eds.). (2014). Meaning in positive and existential psychology (Vol. 10). New York, NY: Springer.
  • Dostoevsky, F. (1992). Crime and punishment (R. Pevear & L. Volokhonsky, Trans.). Vintage International. (Original work published 1866)
  • Dostoevsky, F. (1990). The brothers Karamazov (R. Pevear & L. Volokhonsky, Trans.). New York, NY: Farrar, Straus & Giroux.(Original work published 1880).
  • Fee, G. D. (1995). Paul's Letter to the Philippians. Wm. B. Eerdmans Publishing.
  • Frankl, V. E. (2006). Man’s search for meaning. Beacon Press. (Original work published 1946)
  • Hawthorne, G. F., & Martin, R. P. (2018). Philippians, Volume 43: Revised Edition. Zondervan Academic.
  • Hellerman, J. H. (2015). Philippians. B&H Publishing Group.
  • Pattison, S. (2007). The challenge of practical theology: Selected essays. Jessica Kingsley Publishers.
  • Silva, M. (2005). Philippians (Vol. 11). Baker Academic.
  • Wong, P. T. (Ed.). (2013). The human quest for meaning: Theories, research, and applications. Routledge.

 

 

 

Abstract

 

This article explores a comparative reflection between the Apostle Paul’s experience of imprisonment, as described in the Epistle to the Philippians, and Viktor Frankl’s philosophy of meaning in his seminal work Man’s Search for Meaning. Both figures endured extreme circumstances marked by suffering and limitation, yet each discovered an inner dimension that transcended external reality. Frankl emphasized “meaning” as the last freedom no one can take away, while Paul emphasized “joy in the Lord” as the fruit of union with Christ, the ultimate source of hope. The article concludes with practical applications rooted in Paul’s Christ-centered theology—joy in the Lord, the prayerful release of anxiety with thanksgiving, and reliance on Christ’s strength—while drawing on Frankl’s insights into meaning, so that readers may live out a distinctly Christian hope in contemporary life.

Keywords: Viktor Frankl; Apostle Paul; Philippians; joy; meaning; existential theology.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع