• من المجامع المسكونية إلى ساحة المدينة - د. خلوب قعوار
من المجامع المسكونية إلى ساحة المدينة  - د. خلوب قعوار

تُنسب المقولة الكنسية الشهيرة: "في الأساسيات وحدة، في الثانويات حرية، وفي كل شيء المحبة" إلى اللاهوتي اللوثري الألماني روبرتوس ميلدينيوس (Rupertus Meldenius) في أوائل القرن السابع عشر (حوالي 1627)، وقد صيغت أصلًا كنداءٍ للوحدة المسيحية وسط انقساماتٍ حادّة. وقد تُعدّ هذه المقولة اليوم من أكثر العبارات قدرةً على توجيه الكنيسة حين تتعرض للتوترات الداخلية، لا سيّما عندما يشتد الجدل حول علاقة الكنيسة بالسياسة. فهي لا تدعو إلى سلامٍ شكلي يُخفي الخلاف، ولا إلى تشدّد يحوّل كل مسألة إلى قضية خلاص، بل تقترح ميزانًا روحيًا ولاهوتيًا: جوهرًا إيمانيًّا واحدًا، ومساحةً مشروعةً للاجتهاد، وروحًا حاكمةً هي المحبة.

والكنيسة لم تتعلم هذا الميزان نظريًا فقط، بل اختبرته تاريخيًا في المجامع المسكونية حين اجتمعت لتصون "الأساس" الذي يعرّف الإيمان المسيحي، وتُعلن قانون الإيمان، وتواجه التشويش العقائدي، ثم تعود لتُدبّر حياة المؤمنين في عالم متحوّل. وهكذا يصبح "قانون الإيمان" مرجعًا لتحديد ما هو جوهري، وإطارًا لتنظيم الاختلافات اللاحقة دون أن تتحول إلى انشقاق.

 في الأساسيات وحدة

"قانون الإيمان" كقلب جامع لا يُساوَم عليه

الأساس الذي لا يُساوَم عليه هو أن الكنيسة لا تنتمي سياسيًا قبل أن تنتمي مسيحيًا. ولاؤها الأول لربوبية المسيح، ورسالته، وكرامة الإنسان بوصفه مخلوقًا على صورة الله (تكوين 1: 27)، وأنها مدعوة لعمل العدل والرحمة: "قَدْ أَخْبَرَكَ… أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ" (ميخا 6: 8). ولهذا لا يجوز أن تتحول الكنيسة إلى ذراعٍ لأي سلطة، ولا أن تُختزل رسالتها في برنامجٍ سياسي، لأن مركزها هو الإنجيل والمسيح الرب.

عندما انعقدت المجامع المسكونية (مثل نيقية ثم القسطنطينية وأفسس وخلقيدونية)، لم تكن غايتها صناعة رأي جديد من عندها، بل توضيح وحماية قلب الإيمان: من هو الله؟ من هو المسيح؟ ما معنى الخلاص؟ وكيف نفهم عمل الروح القدس؟ ولذلك جاءت قراراتها لتخدم وحدة الإيمان لا لتبدّل جوهره.

لهذا صار قانون الإيمان علامة لوحدة كنسية تتجاوز اللغات والثقافات، لأنه يضع المؤمنين أمام المركز: الإله الواحد المثلّث الأقانيم، وتجسد الابن، والخلاص، والقيامة، والكنيسة. وهذه الوحدة ليست فكرة مجرّدة فحسب، بل تتجذّر في الكتاب المقدس.

فالكنيسة هي جسد واحد: "لأَنَّهُ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضًا اعْتَمَدْنَا جَمِيعُنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ (1 كورنثوس 12: 13). والمسيح هو مركزها وربّها: "وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ… وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ" (فيلبي 2: 9–11). ووحدتها شهادة للعالم لا ترفًا داخليًا: "لِيَكُونُوا وَاحِدًا… لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي" (يوحنا 17: 21).

في الثانويات حرية:

مساحة اجتهاد في التموضع السياسي

إذا كان "الأساس" واحدًا، فهذا لا يعني أن كل المؤمنين يجب أن يتبنوا الموقف السياسي ذاته أو الأسلوب ذاته. العهد الجديد نفسه يعترف بأن داخل الكنيسة اختلافات في الممارسة والتقدير، ويعلّمنا كيف نعيشها دون تمزيق الشركة. فيقول الكتاب: "وَأَمَّا الضَّعِيفُ فِي الإِيمَانِ فَاقْبَلُوهُ، لاَ لِمُبَاحَثَةِ الآرَاءِ" (رومية 14: 1). وايضًا: "كُلُّ وَاحِدٍ لِيَتَيَقَّنْ فِي عَقْلِهِ" (رومية 14: 5).

ويعزّز بولس هذا المبدأ حين يذكّر بأن الكنيسة، رغم تنوّع عطايا أعضائها وأدوارهم، هي "جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاءٌ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ" (رومية 12: 5)، الأمر الذي يفرض إدارة الاختلاف بروح الشركة والمسؤولية المتبادلة لا بروح الانقسام.

في هذا الإطار، يمكن أن تتنوّع أشكال الحضور الكنسي في المجال العام. فقد تختار بعض الكنائس التركيز على التعليم، والتربية، والوعظ الأخلاقي، استنادًا إلى دعوتها لأن تكون "مِلْحَ الأَرْضِ… وَنُورَ الْعَالَمِ" (متى 5: 13–14)، بينما ترى كنائس أخرى شرعية الانخراط أيضًا في مبادرات مدنية أو إصدار بيانات علنية. ويكون الاختلاف هنا غالبًا في الوسيلة المعتمدة، لا في مبدأ الشهادة المسيحية ذاته.

كذلك قد تتباين تقديرات الكنائس والمؤمنين لقضايا سياسية محددة، مثل قراءة قانون معيّن، أو تقييم سياسة عامة، أو تحديد أولوية اجتماعية. هذا التباين لا يعني بالضرورة صراعًا بين "إيمان ولا إيمان"، بل يعكس اختلافًا في الخبرة، والتحليل، وتقدير الضمير، مع الدعوة الدائمة إلى السعي للسلام دون التنازل عن القناعة.

كما تتنوّع الأدوات والأساليب التي تعتمدها الكنيسة في شهادتها، بين صلوات عامة، ولقاءات حوارية، وعمل اجتماعي وخدمي، ومناصرة قانونية، أو حتى صمت احتجاجي محسوب في أوقات معيّنة. وفي كل ذلك، لا تعني "الحرية" الفوضى أو غياب الالتزام، بل اجتهادًا مسؤولًا يتم تحت سلطان الإنجيل وبروح المحبة الكنسية، كما يوصي الرسول: "لتصر كل اموركم في محبة" (1 كورنثوس 16: 14).

في المحبة

هنا يكمن الامتحان الحقيقي: كيف تبقى الكنيسة كنيسة عندما تدخل السياسة إلى أحاديثها وصداقاتها ومنابرها؟ الكتاب المقدس لا يكتفي بدعوتنا إلى "صواب العقيدة"، بل يضع المحبة كمعيار لصدق الإيمان في الممارسة: "وَأَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ… وَلَكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّةُ" (1 كورنثوس 13: 13). "وَلكِنْ صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ" (أفسس 4: 15). "وَفَوْقَ كُلِّ هذِهِ الْبَسُوا الْمَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رِبَاطُ الْكَمَالِ" (كولوسي 3: 14).

علاقة الكنيسة بالسياسة ستبقى حساسة ومثيرة للخلاف. لكن خبرة الكنيسة عبر المجامع وقانون الإيمان تذكّرنا أن الوحدة تبدأ من المركز، من الله الذي نؤمن به، والمسيح الذي نتبعه، والإنجيل الذي نكرز به. ومن هذا المركز تتسع مساحة "الحرية" للاجتهاد المسؤول، لكن الذي يحفظ كل ذلك من التحول إلى صراع هو "المحبة" التي تجعل اختلافنا شهادة لا انقسامًا.


"وليعطكم اله الصبر والتعزية ان تهتموا اهتماما واحدا فيما بينكم، بحسب المسيح يسوع،  لكي تمجدوا الله ابا ربنا يسوع المسيح، بنفس واحدة وفم واحد.  لذلك اقبلوا بعضكم بعضا كما ان المسيح ايضا قبلنا، لمجد الله" (رومية 15: 5–7).

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع