• جماعةُ المحبةِ 1 قراءةُ إنجيلَ يُوحَنَّا بعيونٍ مسيحيةٍ فلسطينيةٍ 12 – بقلم القِس البروفيسور حنّا كتناشو
جماعةُ المحبةِ 1  قراءةُ إنجيلَ يُوحَنَّا بعيونٍ مسيحيةٍ فلسطينيةٍ 12 – بقلم القِس البروفيسور حنّا كتناشو

عاشَ يسوعُ تحتَ الاحتلال الرُّوماني حينَ كَثُـرَتْ الحروبُ والثَّوراتُ. وانتشرَ العنفُ بين النَّاسِ، وتنوَّعت ردودُ الأفعالِ. فكيف يجب أَنْ يَرُدَّ النَّاسُ على العنفِ والظُّلمِ؟ ثمةُ خمسة توجهاتٍ نعرفُ عنها. أولاً، قررَ حزبُ الغيوريين أَنْ يواجهوا العنفَ بالعنفِ. لقد أَسَّسَ يهوذا الجليلي هذا الحزب أيَّامَ الاكتتاب (أعمال 5: 37) حينَ اعتـرضَ على اكتتاب كيرينيوس الَّذي أرادَ تسجيل أسماء السُّكانِ بهدفِ تحصيل الضرائب للرُّومان.[1] فحرَّضَ يهوذا الجليلي سُكانَ الجليل على الثَّورةِ المُسلحةِ ضدَّ الرُّومان، وعاقَبَ أَتْبَاعُهُ كُلَّ مَنْ تعاونَ مع الاحتلال الرُّوماني. ويبدو أَنَّ أحدَ تلاميذِ المسيح قد تبنَّى هذا التَّوجّه فَدُعي بسمعان الغيور (لوقا 6: 15؛ أعمال 1: 13). وكان كأترابه الغيوريين يرى كُلَّ غريبٍ كعدوٍ. فمن هو الغريب في الفكر الغيوري؟ الغريبُ هو الإنسانُ الَّذي يختلفُ عنهم دينياً أو إثنياً، فلا يَتَبَنَّـى نفسَ القيمِ والعاداتِ الَّتـي يؤمنون بها. ثانياً، تمَّسَّك الفَرِّيسيُّون بالشَّريعة اليهودية وحاربوا التَّأغرقَ أو سيطرة الحضارة الهيلينية.[2] واعتقدوا أَنَّ الحقَّ والعدلَ وحلَّ مشكلات الحياة يَكمُنُ في التَّمسُكِ بالشَّرع اليهودي وبالتَّفسير الشَّفوي بحسب المدرسة الفَرِّيسيِّة. فانفصلوا عن الأُمم واعتبـروهم نجسين. وعندما تعاملوا مع شريعة المِثلِ، أو شريعة العين بالعين، كانوا مستعدين أَنْ يتخلُّوا عن التَّفسير الحرفي شرطَ أَنْ يدفعَ المُعتديُّ تعويضاً مالياً. ثالثاً، حاولَ الصُّدُّوقيُّون أَنْ يجسِروا الهوّةَ بين الإيمان والواقع. وكان الصُّدُّوقيُّون من الكهنة وهُمْ طبقةٌ أرستقراطيةٌ تحكمُ الهيكلَ وتتعاملُ مع الرُّومان. وكانوا يُديرون القضايا السِّياسية ويُمَثِّلُون الرومانَ أمامَ اليهود والعكسُ صحيحٌ. لقد رأوا الآخرَ كشريكٍ فَرَضَتْهُ عليهم الظُّروفُ. وسعوا إلى التَّعايشِ مع الآخر وإلى البراغماتية الَّتي تسعى إلى أفضلِ النَّتائج بأقلِّ التَّضحيات والأضرار. رابعاً، ابتعد الأسينيون عن أورشليم حيث مركز الأحداث وعن اليهود الآخرين وعن التَّفاعل مع الأغريق أو الرُّومان. وتعهدَ الأسينيُّ أن يكره الأشرارَ ويُحبَّ الحقَّ. خامساً، جاءَ المسيحُ برسالةٍ مختلفةٍ عن أهلِ زمانِه. فأكَّدَ على محبةِ العدُّو وتعاملَ بالحُسنِ سواءً أكان مع بطرسَ الَّذي أنكره أو يهوذا الَّذي خانَه. وصارت حياةُ المسيح منهجاً لأتباعه. فخلقَ جماعةً بفكرٍ مختلفٍ. إنَّها جماعة المحبة. هم الخاصةُ (يُوحَنَّا 13: 1)، التَّلاميذُ ( يُوحَنَّا 13: 5)، الطَّاهرون (يُوحَنَّا 13: 10)، والمختارون (يُوحَنَّا 13: 18). إضافةً إلى ذلك، هُمْ أولادُ المسيح إِذْ قالَ لهم: "يا أولادي" (يُوحَنَّا 13: 33). وهذا التَّوجه غريبٌ لاسيَّما أَنَّ بعضَ التَّلاميذ أكبـرُ سناً من المسيح، ولكنَّ المعنى واضحٌ في ضوء إدراكنا لتمخض المسيح ولآلامه الَّتـي ستزيلُ السِّتارَ عن ظهيـرة اليهودية الاسخاتولوجية وولادة شعب يسوع المسيح. فهم أولادُه بمعنى أَنَّهم جماعته وأتباعه، وهو الأبُ الروحيُّ لأسرائيل الجديد. وبنوَّتُهم له تتعلقُ بتمجده وتمجيده للآب (يُوحَنَّا 13: 32). وتتعلقُ هويتُهم كأولاده بذهابه إلى الصَّليب (يُوحَنَّا 13: 33) وبالمحبة الَّتي يُجسِّدها. فلنتأمل في هذا الأمر من منظور يُوحَنَّا 13.

لا شكَّ أَنَّ يُوحَنَّا 13 يُركِّزُ على المحبة فيبدأُ بالحديث عن يسوع الَّذي "أحبَّ خاصتَه الَّذين في العالم، أحبهم إِلى المنتهـى" (يُوحَنَّا 13: 1). أَحبهم إِلى المنتهى أي أنَّه أحبهم حتَّى آخر حياته وبكلِّ قلبه. إنَّها محبة 100% زمنياً ونوعياً. وهكذا يجعل يُوحَنَّا المحبةَ أساساً للعلاقة مع خاصَّة المسيح. ويجعلها جوهرَ هوية تلاميذه إِذ يقول "بهذا يعرف الجميعُ أنكم تلاميذي: إنْ كان لكم حبٌّ بعضاً لبعض" (يُوحَنَّا 13: 35). ونرى في سياق الفصل الثَّالث عشر خيانةَ يهوذا (يُوحَنَّا 13: 18 – 29) وإنكارَ بطرس (يُوحَنَّا 13: 36 – 38) وبينهما وُضعت وصيةُ المسيح الَّتـي تقول: "وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضاً. كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً" (يُوحَنَّا 13: 34). لم يعطِ المسيحُ وصيةَ المحبة في سياق الاتفاق والوفاق الكامل بل وسط الإنكار والخيانة. وهكذا يضيفُ السِّياقُ مغزىً أعمق لوصية المحبة. فعلينا الالتـزامُ بالمحبة بالرَّغم من فشلِ الَّذين نحبهم. وتتجه الأنظارُ إلى الطَّريقة الَّتي أحبَ بها المسيحُ تلاميذَه. فكيف أحبهم؟

قبل صلبه بأيَّامٍ قليلة، صبَّ يسوعُ ماءً في مغسلٍ وغسلَ أقدامَ التَّلاميذ ومَسَحَها بالمنشفةِ (يُوحَنَّا 13: 5). لقد أحبَّهم بالرَّغم من أنَّهم مُتسخون وأقدامهم ملوثة. وعبَّـرَ عن حبه بإزالة أوساخهم. فساعدهم أَنْ يتخلَّصوا من الأمور المُنفرة الَّتي عَلَقَتْ بأقدامهم إِذ سلكوا بدروبٍ تُرابية متسخة. ولزمَ الأمرُ تنازلاً عجيباً ليتمكن المسيحُ من تفعيل المحبة الَّتي تزيلُ الأوساخَ. يُثيـر هذا النَّوع من المحبة الأسئلةَ وردود الفعل المختلفة. أراد المسيحُ أن يُظهر تأَنَّسَه للتَّلاميذ فتنازل كعبدٍ يغسل الأقدامَ. كان غسلُ الأقدام أحقرَ الأمور الَّتي يمارسُها أَدنى العبيد. ولربما يقبلُ بعضُ التَّلاميذِ أنْ يغسلوا أقدامَ المسيح. ويقبلُ البعضُ الآخر أنْ يغسلوا أقدامَ بعضهم بعضا، ولكن أنْ يغسلَ السَّيِّدُ أقدامَهم، فهذا أمرٌ عجيبٌ لاسيَّما أنَّه عَالِمٌ أنَّ الآبَ قد دَفَعَ كلَّ شيءٍ إلى يديه أو تحت سلطانه (يُوحَنَّا 13: 3). ولقد أصرَّ بعضُ اليهود أنَّ العبدَ اليهودي يجب ألَّا يرضى بغسل أقدام الآخرين. واعتقدوا أنْ أمراً كهذا مسموحٌ به فقط للعبد الأممي أو للنِّساء والأطفال.

إضافةً إلى وسخ الأقدام عانى التَّلاميذُ نقصاً في الفهم، ولكنَّ المُعلِّمَ أحبَّهم بالرَّغم من عدم الفهم. لا تقبل المحبةُ الجهلَ والغباءَ ولكنَّها تصبرُ وترجوُ وتنتظرُ الزَّمن الَّذي تزولُ فيه ضبابيةُ الفكرِ. رفضَ بطرسُ أَنْ يغسلَ المسيحُ أقدامَه. لَمْ يفهم خطةَ الله وطرقَه في العمل. فقالَ له يسوعُ: "لست تعلم الآن ما أنا أصنع، ولكنَّك ستفهم فيما بعد" (يُوحَنَّا 13: 7). لم يقبل بطرسُ تصرَّف المسيح. فطلبَ منه الرَّبُّ أنْ يُؤَجِّلَ تقييمَه  للموقف إِذ سيفهم عملَ المسيح بعدَ الصَّليب والقيامة والصُّعود والعنصرة. ربما لا يفهم بطرسُ الآن ولكنَّه سيفهم فيما بعد. لقد أصرَّ بطرسُ على الحصول على الأمور بطريقته وتوقيته. فعندما قال المسيحُ: "حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا" (يُوحَنَّا 13: 33). أَجَابَ بطرسُ: "لماذا لا أقدر أن أتبعك الآن". فأعلنَ له المسيحُ قائلاً: لا تقدر الآن أنْ تتبعني، ولكنَّك ستتعبني أخيـراً (يُوحَنَّا 13: 37). بيَّنَ المسيحُ أنَّ المحبةَ لا تصبر على الجهل فحسب بل تعمل في سبيل نشر الحقِّ. وأزالَ المسيحُ أوساخَ الأقدام بيديه ولكنَّه سيزيل سوءَ الفهم ونقصه وحتَّى عدمه بالمحبة المضحية المتألمة. إنّها محبة الله الَّتي ظهرت على الصَّليب. وهكذا تصبحُ المحبةُ جسراً للفهم والتَّفاهم.

تتطور نقصُ الفهم عند بطرسَ وتجسَّد في العقلية المُطلقة. إنَّها الذهنية الضَّيقة الأُفق الَّتي لا ترى الأمورَ إلَّا من منظورٍ واحدٍ. ثُمَّ تُقرِّر الصَّوابَ والخطأَ دون اعتبارٍ لوجهات النَّظر الأخرى ودون الاعتماد على العلم. جادل بطرسُ المسيحَ مُصِرَّاً على موقفه وعلى مقاييس المجتمع في القرن الأول. فكيف يكسر المقاييسَ الاجتماعية والتقاليد؟ لم يعتبـر بطرسُ أنَّ المسيحَ يَعْلَم أكثـرَ منه. ولم يفكر في أنَّ معلمَه عالمٌ بمجيء ساعة صلبه (يُوحَنَّا 13: 1) وأنَّه عالمٌ أنَّ الآب قد دفع كلَّ شيءٍ إلى يديه (يُوحَنَّا 13: 3). ولم يسمع لتشخيص المسيح: " لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع ولكنك ستفهم فيما بعد" (يوحنا 13: 7). لقد طَالَ زمنُ الجهل عند بطرس. فحتَّى بعد أَنْ قامَ المسيحُ وظهرَ لبطرسَ وصعد أمامه إلى السَّماء وانسكب الرُّوحُ القُدُسُ يومَ الخمسين لَمْ يفهم بطرسُ كلَّ مغزى عمل المسيح. فأراه اللهُ رؤيةً يشرح له فيها أَنَّ ما يُطهِّرهُ اللهُ لا يستطيع الإنسانُ أنْ يعتبـره دنساً أو نجساً (أعمال 10: 9 – 16). ويقول الكتابُ المُقدَّسُ عن بطرسَ أَنَّه: "رأى السَّماءَ مفتوحةً وإناء نازلا عليه مثل ملاءة عظيمة مربوطة بأربعة أطراف ومدّلاة على الأرض. وكان فيها كلُّ دواب الأرض والوحوش والزّحافات وطيور السَّماء. وصار إليه صوتٌ: قم يا بطرس اذبح وكُل" (أعمال 10: 11 – 13). رفضَ بطرسُ دعوةَ الله مما دفع الرَّبّ أنْ يكلمه ثانيةً (أعمال 10: 15). وهكذا نرى أنَّ رحلةَ الفهم عند بطرس طالت ولكنَّه فهم أخيـراً. لقد عامله المسيحُ بمحبةٍ كبيـرةٍ ولكنَّها المحبة الحازمة الَّتي لا تقبل التَّراجع عن الخطة الإلهية. فقال له المسيحُ: "إن كنتُ لا أغسلك فليس لك معي نصيب" (يُوحَنَّا 13: 8). لم يكن قول المسيح تهديداً لبطرس بل شرح له نتائج قراره بلغةٍ حازمةٍ. فكلمةُ "نصيب" تعني أيضاً ميـراثاً. وهكذا يقول المسيحُ لبطرس "إنْ كنتُ لا أغسلك" ستخسر كلَّ شيءٍ ولن يكون لك ميـراثٌ ولن تكونَ ضمن جماعتي. تأثَّر بطرسُ بشدة لهجة المسيح. فقال أريدُ أن تغسلَ رأسي ويديَّ وقدميَّ لأصبح طاهراً ومقبولاً عند الله ورسوله يسوع المسيح. فكشف له المسيحُ أنَّ الطهارةَ لا تعتمد على طقوس الغسل بل على أعماق القلب. تكلم بطرسُ بسخافةٍ ولكنَّ المسيحَ اغتنم كلَّ فرصةٍ لينشرَ فكرَ الله.

ولا تكتفي المحبةُ بنشر الفهم بل تسعى إلى تجسيده بسلوكيات واضحةٍ. وهكذا قال يسوعُ لتلاميذه بعدَ أَنْ غَسَلَ أَقدامَهم: "أتفهمون ما قد صنعت بكم . . . كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً" (يُوحَنَّا 13: 12 – 15). ولا عُذرَ لمن يتخلى عن طريقِ المحبة. فلقد أَعلنَها يسوعُ حينَ ألقى الشَّيطانُ في قلبِ يهوذا الإسخريوطي أنْ يُسَلِّمَ المعلمَ وحينَ كانَ يسوعُ يَعْلَم بأمر مُسَلِّمه (يُوحَنَّا 13: 2، 11). وهنا لا بُدَّ من الإشارة إِلى دورِ المحبة في السِّياق الفلسطيني. فكيف يُجسِّد المسيحيُّ الفلسطينيُّ في إسرائيلَ محبةَ المسيح؟

 

 

[1] Josephus, Wars. 2.8.1. It is available on http://www.ccel.org/j/josephus/works/war-2.htm. See also Josephus, Jewish Antiquities. 18.1.6. It is available on https://www.ccel.org/j/josephus/works/ant-18.htm.

[2]  تأثّر بعض القادة الفَرّيسيّين بالحضارة الهيلينية ودرسوا اليونانية إلا أنهم شددوا على عدم تأغرق الشَّعب. للمزيد من المعلومات راجع،

Martin Hengel, The Helenization of Judaea in the First Century after Christ (Philadelphia: Trinity Press International, 1989), 37.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع