
سان فرنسيسكو- الولايات المتحدة
منذ نعومة أظافري وأنا أرنو نحو ذلك العالم البعيد الرائع المدعو "الحلم الأمريكي". لطالما شاهدتُ الأفلام والمسلسلات 'الهولووديّة' الساحرة الآسرة وافتكرتُ في نفسي: يا له من مكان يطيب العيش فيه، كالحلم! بيوت جميلة، شوارع نظيفة، برامج ونشاطات عائلية شيقة ومتعددة وكثيرة، حريّة الرأي وبساطة الوجود وتقدير الفرد وحرية الفرد…لطالما سرحتُ في مخيلتي أحلم وأخطط وأتمنى لو يأت ذاك اليوم وتسنح لي الفرصة أن أعيش ذلك الحلم الأمريكي المميز. لو يتحقق هذا الأمر، عندها سألمس السحاب بحقّ! كم من مرة قلنا لأنفسنا هذه الخدعة!
وبطبيعة حال بلادنا المعقدة والآخذة بالانحدار من سيءٍ إلى أسوأ، زاد شغفي شوقًا، ورنت عيناي اكثر فأكثر نحو مستقبل أفضل لبيتي وأولادي وعائلتي… شغفي هذا جعلني أنظر لبلادي نظرة الدون… نظرة غير راضية، فاقدة للرجاء والحب والانتماء. مذ نشأتي، لم أشعر أبدًا بأي انتماء تجاه بلادي وعاداتي وأفكار عروبتي وتحفّظاتها. ربما لأنَّ الهوية في بلادي مُّعقدة والتاريخ فيها دامٍ ومظلم ومتعب… وربّما لأننا نميل في بلادي دومًا نحو التطرّف في كل شيء… في الدِّينِ، في السياسةِ، في الاجتماعياتِ، وحتى في التظاهر والترف والبهرجة! وربما شعوري ذاك ينبع أيضًا من حقيقة معاملتي كمواطنة من الدرجة الثانية والثالثة في دولة تُنكر وجودي وقيامي وجذوري وهويتي… أو ربما لكثرة النزاعات والخلافات والمشاكل التي تفيض كنهر لا يجف ولا يتعب ولا يكلّ، حتى وصل بي الأمر كغيري، بأن اختنقت… تعبت… مللت… واشتهيتُ الرحيل… حالي كحال الكثيرين في البلاد!
وعندما أتت الفرصة، اغتنمتها دون تردد، انقضضت عليها بنهم الجائع وبفرح طفل في ليلة العيد… فسافرتُ أخيرًا إلى بلادِ العم سام، بلاد العسل واللبن والجبن والنبيذ والشوكولاطة والسيارات الفارهة والبيوت الجميلة والشوارع الواسعة النظيفة وناطحات السّحاب… وها أنا أعيش الحلم الأمريكي وقد لامستُ السّحاب وحقّقتُ أعظم أهدافي وأجملها!
تعلّمتُ مؤخرًا بأن المُهاجر لبلد جديدة، يمرّ عادة بثلاث مراحل قبل أن يستقر نفسيا وجسديا وفكريا في وطنه الجديد…!
المرحلة الأولى تُدعى 'مرحلة شهر العسل'. مرحلة جميلة وحلوة وعذبة لأبعد الحدود. في هذه المرحلة ينبهر المرء بكل شيء من حوله، وبأصغر التفاصيل. يصبح حاله كالثّمل، يتميّس ويغازل كل زاوية يراها حوله. الشوارع والأزقة والدكاكين والناس والسيارات والسماء والأشجار… كل شيء باهر… كل جزء صغير تراه العين ساحر ومميز… فيتنهّد ويتبسّم كالعاشق الولهان كيفما نظر من حوله. وقد تستمر هذه الفترة أشهر أو سنة وربما سنتين… لتأتي من بعدها مرحلة الرّفض! في هذه الفترة يجد المرء نفسه في حالة حنين لبلاده الأولى. يحنّ للبساطة والتقاليد والأعراف والناس والتّجمعات… يحنّ لما اعتاد عليه لسنوات وسنوات طوال، ويرفض كل تغيير وتجديد. يحنّ لكل شيء كان قد كرهه وهرب منه… وحنينه هذا يدفعه لشعور النفور من مجتمعه وبيئته الجديدة. هنا تبدأ المقارنة، فيتكرر على لسانه حديث: "في بلدي نقول… في بلدي نحب… في بلدي اعتدنا… في بلدي…" تجده في ليلة وضحاها عاشقٌ متيّم مخلص لبلده. فبلده هي الأصالة والجمال والعراقة وكل شيء مميز وحلو… وتتحول البلاد الجديدة إلى غربة قاسية قاهرة ووحيدة. في بلدي نعيش العائلية والجماعة حتى في أبسط الأمور كأن نتجمع حول فنجان قهوة عابر في يوم عمل مضغوط. هنا تبحث عن أية شخص يسألك كيف حالك أو يهتم أن يعرف كيف قضيت نهاية أسبوعك!
أنا الآن أعيش هذه المرحلة! بدأت أنظر لبلاد العم سام بعين الانزعاج والنفور. تزعجني حقيقة أنه مجتمع يتمركز حول الفرد، وما يريده الفرد، دون الاهتمام بالمجموعة. أرى الآباء والأمهات ينشغلون طوال الأسبوع في تلبية احتياجات اولادهم والتواجد معهم ولأجلهم في كل الشؤون، لينتهي بهم المطاف وحيدين في كبرهم لأن أولادهم اعتادوا أن يأخذوا ولم يُعلّموهم أن يعطوا بالمقابل! ابنهم في عمر 16 عام، يحترمون رغبته الفردية وتفرّده ولا يبادرون أو حتى يُفكرون بأن يُبقوا اولادهم حولهم وتحت جناحهم وفي فمهم ادّعاء مزيف: لابني حرية الاختيار كيف ومع من يقضي وقته! كم هو مجتمع وحيد. العائلات متفرقة تلتقي فقط في الأعياد. يزور الابن والديه كل عدة أشهر لأنه منشغل في تحقيق أحلامه وطموحاته وأهدافه. وماذا مع وصية الرب لنا بأن نُكرم أبانا وأمنا كي تطول أيامنا على الأرض؟ أكانت محض صدفة أن اختار الله تدريج هذه الوصية في المرتبة الثانية من الوصايا العشر؟
وهنا تجدني أحنّ لجمعاتنا العائلية، لضحكاتنا وصخبنا وضوضائنا وصراخنا ومشاحناتنا وجنوننا… هنا عرفتُ بأن الشرقيين عامّة والعروبة خاصة هم شعب صاخب، صوته عال، مشاعره جيّاشة ومجنونة… وهنا عرفت بأن هذا الصخب والجنون هم نبض الحياة وجمالها، وهم عشقي وحنيني وبيتي. هم عبارة عن شغف بالمشاعر، وعمق بالأحاسيس… هي صرخة حياة ووجود! لقد خلق الله آدم، ثم رأى كم كان وحيدًا فأتاه بحواء في ترتيب إلهي مُتقن ومميز يهدف للتكاثر والتناسل والتعايش…
هنا بدأت أقدّر العادات التي كنت أكرهها… أصبحتُ أبحث عمّا كنتُ أهرب منه في بلادي.. عن الناس، واللغة، والأفكار المشتركة والتقاليد والأعراف المجنونة الجميلة الدافئة والتي تربيتُ عليها وأتمنى أن يساعدني الله لأربّي اولادي بحسبها وأُحبِّبهم بها! هنا أشدِّد على أولادي أن يستقبلوا الضيوف والغرباء بمحبة وابتسامة ورحابة صدر لأنها ليست فقط من عاداتنا العربية الرائعة والتي أفخر بها، ولكنها أيضًا بمثابة خدمة للرب وشهادة حيّة عن مسيحنا الساكن فينا، الذي أحبّنا حدّ الموت وجاء إلينا باحثًا عنا. من جالس الخطاة والعشَّارين، سامرهم وأكل معهم وضحك… إلاَّ أن هذه العادات هي من الأمور التي تشده لها أفواه المجتمع الأمريكي، فيستغربون كيف لشاب مراهق وشابة مراهقة أن يتواجدان في مساء عطلة نهاية الأسبوع مع والديهم ليستقبلوا ضيوفهم ويخدمونهم ويتسامرون معهم بدلا من أن يخرجوا للسهر مع رفاقهم؟! كيف لي أن أشرح بأنه من عاداتنا أن يساعد ويساند الابن والابنة الأهل في الضيافة؟! وقد أبدوا في موقف كالمجنونة في عيني ضيوفي الأمريكان وظالمة لحقوق أولادي وحريتهم!
آهٍ كم أشتاقُ لذاك الصخب والجنون، وأصبحتُ أنزعج من هذا الهدوء وهذه السكينة. أشتاقُ للتجمعات وانزعج من الوحدة والعزلة التي طالما تمنيتها! غريبٌ هذا التغيير ومضحك ومُبكي في ذات الوقت! أصبحنا نبحث عن التجمعات بعدما هربنا منها آلاف الأميال!
وها أنا أنتظر…
أنتظر أن تنتهي هذه المرحلة وتمر عني بسلام لأصل إلى المرحلة الثالثة والأخيرة…. مرحلة القبول! مرحلة أن أحب هنا، وأحب هناك. مرحلة أتقبل بها حقيقة أن وجودي هنا وحبي لهنا لن يُقلّل ولن يُغيّر شيئًا من أصلي ومن عشقي لبلدي ومن جمال عاداتنا. هي المرحلة التي يبدأ المرء فيها ينظر للأمور كلها بعين الرِّضى، والرّاحة والاقتناع بأن لكل شيء ولكل موقع مكانته الخاصة في القلب، وأنه بإمكاننا أن نقع في حب بلدين وأن نُشرِك في العِشق والانتماء!