• هل الخلاف مع المدرسة التدبيرية هو حول المستقبل فقط؟ بقلم: شكري حبيبي
هل الخلاف مع المدرسة التدبيرية هو حول المستقبل فقط؟  بقلم: شكري حبيبي

يظن الكثيرون أن الخلاف بين المدرسة التدبيرية(1) وغيرها من المدارس اللاهوتية الأخرى هو حول المستقبل فقط، أي حول العلامات التي ستسبق مجيء الرب يسوع المسيح ثانية، والحوادث التي سترافقه. لكن الحقيقة هي أن الخلاف، وهو أساسي ومهم، يدور حول الماضي أيضاً. تعتبر المدرسة التدبيرية أن خطّة الله لتحقيق الملكوت الذي وعد به شعبه القديم – أي إسرائيل - لم تتم عند مجيء الرب يسوع  المسيح. والسبب الذي تشير إليه هذه المدرسة هو رفض اليهود للمسيح الملك عندما أتى. وأن الله عندها نحّى إسرائيل جانباً إلى زمن آخر في المستقبل، تتحقق فيه هذه المواعيد. وأننا نمر حالياً في فترة معترضة وانتقالية من التاريخ البشري. كتب أحد مُفسّري المدرسة التدبيرية قائلاً: «بما أن أمة إسرائيل رفضت مسيحها، وُجب إدخال عصر الكنيسة الذي يُشكّل فترة زمنية اعتراضية تستمر حتّى الاختطاف(2)، بعدها يستأنف الرب معاملاته مع الأمة القديمة.»(3) أي  يحقق الله وعوده لإسرائيل بالملكوت الأرضي، بعد أن يمرر هذا الشعب بفترة ضيق عظيم. ووصف هذا  المفسّر التدبيري ملكوت الله في زمن الكنيسة بأنه ملكوت انتقالي، أو مرحلة انتقالية(4).

 

دعونا الآن نناقش أهم الفرضيات الخاطئة لهذه المدرسة. فنسأل أولاً: ما هو نوع الملكوت الذي عرضه المسيح على اليهود في أيامه؟ هل هو ملكوت أرضي كما تزعم المدرسة التدبيرية؟ للإجابة أقول: يتضح لنا أن سبب رفض غالبية اليهود للمسيح هو أنه عرض لهم ملكوتاً روحياً يختلف بالكلية عمّا في أذهانهم. وهناك أمثلة عديدة لكن أكتفي ببعضها. فقد أكّد حديث الرب يسوع المسيح مع نيقوديموس وكان من رؤساء الفريسيين اليهود هذا الأمر. إذ بعد أن اعترف نيقوديموس للمسيح أنه جاء من الله معلّماً، والدليل هي هذه الآيات أو العجائب التي يقوم بها، أجابه المسيح عن ملكوت الله، وأنه «إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله»(5). فمن البداية كان الملكوت الذي عرضه المسيح هو ملكوت روحي وليس ملكوتاً أرضياً. وكان المسيح قد أكّد في بداية خدمته: «قد كمُل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل»(6). من الواضح أن المسيح عرض ملكوتاً روحيا، وليس ملكوتاً أرضياً. وأكّد لنا البشير يوحنا أن المسيح قد أتى إلى خاصته لكي يتمم وعود الله لهم بالخلاص، لكن خاصته لم تقبله كشعب، بينما الذي يقبله أو يؤمن به منهم أو من غيرهم يصبح من أولاد الله(7).

 

لعلّ المشكلة الكبرى هي ادعاء المدرسة التدبيرية أن عصر الكنيسة هو فترة معترضة في تاريخ معاملات الله مع الإنسان. فكيف تكون الكنيسة هي فترة معترضة في تاريخ علاقة الله مع الإنسان؟ مع أن الكنيسة كانت في فكر الله منذ الأزل(8). وكيف تكون الكنيسة وخلاص الله المعلن في المسيح أمر مُخفى في العهد القديم؟ مع أن الرسول بطرس كتب عن «الخلاص الذي فتّش وبحث عنه أنبياء.. الذين أُعلن لهم أنهم ليس لأنفسهم، بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور...»(9). وهو ما سبق للرب يسوع نفسه أن أكّده لتلاميذه، أثناء حديثه لهم عن أمثال الملكوت(10). أو لم يعلن بطرس ويوحنّا لليهود «أن جميع الأنبياء.. سبقوا وأنبأوا بهذه الأيام»؟(11). وكذلك أعلن الرسول بولس لليهود في مجمع انطاكية بسيدية أن «الله أقام لإسرائيل مخلصا يسوع»(12). أو لم يجلس المسيح على كرسي داود وتُوّج بالتالي ملكاً بقيامته الظافرة من بين الأموات، وصعوده حياً إلى السماء، وجلوسه عن يمين الله الآب؟(13). أجل لقد جلس المسيح على كرسي داود، وأصبح ملكاً، وحقق وعد الله لإسرائيل بالملكوت. وهذا يؤكد أن مواعيد الله لإسرائيل قد تمّت كلّها، وبطريقة لم يكن أحد يتوقعها، لأن أفكار الله هي غير أفكار الإنسان. ولهذا نستطيع القول أن ملكوت الله الحالي ليس هو ملكوتاً مؤقتاً أو فترة اعتراضية في تاريخ معاملات الله مع الإنسان، بل هو الملكوت الذي خطّط له الله منذ القديم، والذي لم يستطع شعب اسرائيل إدراكه. وهنا نطرح التساؤلات التالية: هل تفاجأ الله برفض اليهود للمسيح، فقرر أن يذهب المسيح إلى الصليب ويبدأ عصر الكنيسة؟ ولو فرضنا جدلاً أن اليهود قد قبلوا المسيح كملك أرضي، فهل كان هذا يعني أن الله سيبدّل خطته الأزلية بفداء الإنسان؟ وأنه بالتالي لن يكون هناك خلاص للبشر؟  

 

وهناك مشكلة هامة أخرى في التفسير  التدبيري أنه ما يزال يفصل وبشكل حاد بين الكنيسة وشعب اسرائيل، مع أن الأمر قد انتهى بالكلية في العهد الجديد. وهو ما أكّده الرسول بولس في رسالته إلى أفسس عندما تحدّث عن نقض الحائط المتوسط بين اليهود والأمم(14)، وأن الأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده في المسيح بالإنجيل(15). وكتب في رسالته إلى أهل غلاطية مؤكداً أنه ليس يهودي ولا يوناني، وأن الجميع هم نسل إبراهيم وحسب الموعد ورثة(16). وأعلن الرسول بولس في رسالته إلى رومية أن المؤمنين من الأمم قد طعّموا في الزيتونة مع المؤمنين من شعب إسرائيل وصاروا شركاء في أصل الزيتونة ودسمها(17). ثم أكّد أن جميع إسرائيل سيخلص(18)، وعلينا أن  نلاحظ، أنه حتّى لو فرضنا جدلاً أن الرسول بولس كان يقصد هنا الخلاص لجميع المؤمنين من إسرائيل بحسب الجسد فقط، فإنه كان يتحدّث عن الخلاص بالمسيح بواسطة إنجيل النعمة وليس بواسطة إنجيل الملكوت(19) كما يقول التفسير التدبيري. ثم ختم الرسول بولس قائلاً: "«أن الله أغلق على الجميع معاً في العصيان، – أي اليهود والأمم – لكي يرحم الجميع»(20). مع العلم أن الرسول بولس لم يتحدّث في الرسالة إلى رومية أصحاح 11 عن اختطاف الكنيسة، ولا عن فترة خاصة لشعب إسرائيل، ولا عن الملكوت الأرضي. بل تحدّث عن خلاص الله الذي سيشمل الجميع الأمم واليهود. فهل هناك أوضح من هذه البراهين الكتابية؟ وأن شعب الله الآن هو شعب واحد يجمع بين كل المؤمنين، ولن يكون هناك أي فصل في المستقبل.

 

أختم بما تحدّث به المسيح في مثل الكرم والكرّامين عندما قال لرؤساء ليهود: «لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره»(21). نعم لقد نُزع ملكوت الله من شعب إسرائيل، وأُعطي لشعب الله المؤلف من الجميع يهوداً كانوا أم أمماً. أجل لقد تحققت مواعيد الله كلها، في شخص الرب يسوع المسيح. وهو ما أسميه باللاهوت الاتمامي  أو المُتحقق  Fulfillment Theology  وليس باللاهوت البديلي  Replacement Theology  كما يتهمنا التدبيريون.

 

(1) تؤمن المدرسة التدبيرية أن الله يتعامل مع الإنسان من خلال سبعة تدابير أهمها: تدبير الوعد، تدبير الناموس، تدبير الكنيسة، ثم تدبير الملكوت. وقد بدأت هذه المدرسة عام 1830 مع الواعظ الإنكليزي جون داربي مؤسس جماعة الإخوة.    

(2) الاختطاف بحسب التفسير التدبيري هو حادث سرّي ومفاجئ يخطف فيه الله الكنيسة أي المؤمنين بالمسيح، لكي يعود ويتعامل مع شعب إسرائيل.  

(3) ورد هذا الاقتباس في كتاب (تفسير الكتاب المقدّس للمؤمن) لمؤلفه وليم مكدونالد صفحة 118.  

(4) ورد هذان التعبيران في نفس المصدر السابق صفحة 98 و 99.

(5) بشارة يوحنّا 1:3-3.  

(6) بشارة مرقس 15:1.  

(7) بشارة يوحنّا 11:1-13.

(8) الرسالة الثانية إلى تيموثاوس 9:1-10: «الذي خلّصنا ودعانا دعوة مقدّسة لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية»؛ أفسس4:1: «كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم».  

(9) 1بطرس 10:1-12.

(10) بشارة متّى 16:13-17.

(11) أعمال الرسل 24:3-26.

(12) أعمال الرسل 23:13-24، 32-35.

(13) أعمال الرسل 30:2-36.

(14) الرسالة إلى أفسس 13:2-15.

(15) الرسالة إلى أفسس 4:3-6.

(16) الرسالة إلى غلاطية 26:2-29.

(17) الرسالة إلى رومية 17:11.

(18) الرسالة إلى رومية 26:11.

(19) إنجيل الملكوت بحسب التفسير التدبيري هو الذي سيُبشّر به أثناء الضيق العظيم من قبل اليهود الأتقياء. وهو الذي يعلن أن المسيح سيأتي ويملك على الأرض.   

(20) الرسالة إلى رومية 32:11.

(21) بشارة متّى 43:21.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع