
لا شكَّ أنَّ العهدَ القديمَ يُشكّلُ تحدياً كبيراً للكثيرين. أثار العهدُ القديم الكثيرَ من الأسئلة الأخلاقية والعلمية. وزاد الطين بلة بسبب تسييس العهد القديم واستخدامه ضد الشعب الفلسطيني إذ برّر بعض اللاهوتيين والسياسيين الحروب وسلب الأراضي وتهجير الفلسطينيين وحتى تجويعهم باسم أسفار العهد القديم. لهذا لا استغرب من تردد الناس من التعامل مع العهد القديم، لكنني استغرب من تردد بعض الكهنة من قبول نصوص وأسفار العهد القديم كأسفار الكنيسة. يتعارض هذا الموقف مع موقف الكنيسة الرسمي ومع الليتورجيا الكنسية التي تتجمل بنصوص العهد القديم. لهذا وجدت أنه من الضروري أن أوضح موقف الكنيسة الرسمي من العهد القديم في مقال صغير آملا أن يتشجع الكهنة والقسس على التمسك بموقف كنائسهم أو على الأقل أن يثير هذا الموضوع نقاشا بنّاءً في تشكيل آليات تعين الكهنة والقسس على فهم موقف كنيستهم وفحص موقفهم من العهد القديم.
تؤمن الكنيسة الكاثوليكية أن العهد القديم هو وحي إلهي موجه للبشر يشهد عن محبة الله ويُظهر تاريخ الخلاص ويُعد البشر لاستقبال العهد الجديد. فيجب عدم إبطاله واعتباره جزءاً لا يتجزأ من الكتاب المقدس المسيحي. وفي المجمع الفاتيكاني الثاني، في الفصل الرابع والقسم الذي يتحدث عن الدستور العقائدي في الوحي الإلهي لكلمة الله (Dei Verbum)، يقول النص:
لقد أرادَ الله وأَعَدَّ في محبتِهِ الفائقةِ وعنايتِهِ الساميَةِ خلاصَ الجنسِ البشريِّ بكاملِهِ. فاختارَ لنفسِهِ، بتصرفٍ فريدٍ، شعباً يُوكلُ إليهِ المواعيدَ، وقطع عهداً مع إبراهيم (را. تك 15، 18) وبواسطةِ موسى مع شعبِ إسرائيل (را. خر 24، 8) وأَظْهَرَ نفسَهُ، للشعبِ الذي خلَّصَه، إلهاً وحيداً حقيقياً وحياً، وذلك بالأقوالِ والأعمال، ليختَبِرَ إسرائيلُ ما هي طُرُقُ الله مع البشرِ وليتقدَّمَ يوماً بعدَ يومٍ في فهمِها بصورةٍ أعمق وأوضح، ويُعلنَها على الأمم إطلاقاً مستنداً في ذلك على الكلام الذي فاهَ به الله بالأنبياء (را. مز 21، 28- 29؛ 95، 1- 3؛ إش 2، 1- 4؛ إر 3، 17). أما تدبيرُ الخلاصِ الذي سَبَقَ فأعلنَهُ الكُتَّابُ القدّيسون وأخبروا بهِ وفسرَّوه، فإننا نجدُهُ في أسفارِ العهدِ القديمِ ككلمةِ الله الحقيقية. ولذلك تحتفظُ هذه الكتبُ المُوحى بها من لَدُنِ الله بقيمةٍ ثابتةٍ: "لأن كلَّ ما كُتِبَ من قَبلُ إنّما كُتِبَ لتعليمِنا ليكونَ لنا الرجاءُ بالصبرِ وبتعزيةِ الكُتُبِ" (رو 15، 4). [1]
يؤكد المجمع الفاتيكاني أن العهد القديم هو "كلمة الله الحقيقية" وأن أسفاره مُوحى بها وأن لها قيمة ثابتة لا تتغير. فهي مفيدة للكنيسة في تعاليمها وتعزيتها وتقوية رجاء الكنيسة بعمل الله. ويضيف المجمع قائلا، "إنَّ هذه الأسفارَ، وإِنْ احتَوَتْ أموراًَ غير كاملةً وزمنيَّةً، فإنّها تُطلعنا على أسلوبٍ تربويٍّ إلهيٍّ حقيقي. ولهذا فعَلى المسيحيينَ أنْ يَقبَلوها بورع. فإنَّها تُعبِّرُ عن المعنى الحيّ لله، وتكمُنُ فيها تعاليمُ سامية عن الله وحكمة خلاصيّة عن حياة البشر وكنوز رائعة للصلوات. فيها أخيراً يحتَجِبُ سرُّ خلاصِنا."[2] يؤكد المجمع أن الله هو الذي ألهم أسفار العهدين فيجب قبول كل أسفار العهد القديم مع التأكيد أن هذه الأسفار تكتسب كمال معناها في العهد الجديد. أضف إلى ما سبق أن كنيسة الروم-كاثوليك التي أشكر الرب عليها، وهي الكنيسة الأكبر عدداً في إسرائيل، هي جزء من الكنيسة الكاثوليكية الجامعة وتحتفظ بالطقس البيزنطي. لقد وقّع البطريرك مكسيموس الرابع (بطريرك من 30/10/1947 إلى 5/11/1967) وعددٌ من الأساقفة الملكيين على وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني معبرين عن موافقتهم على ما جاء فيها. [3] ويؤكد موقع بطريركية الروم-كاثوليك الملكيين أهمية الكتاب المقدس بعهديه ما دامت قراءتنا تتمحور حول المسيح الكلمة. فهو الكائن الأزلي الذي تحدث العهد القديم عنه ولهذا فإن كنيسة الروم-كاثوليك لا تقبل أن تكون معرفة الأسفار المقدسة محصورة بكنائس الإصلاح البروتستنتية بل تصر على الاستمرار بموقف كنيسة الآباء والمجامع الكنسية ساعية إلى فهم كل مخطط الله في كل كلمته المقدسة. [4] ويؤكد اللاهوتي المطران كيرلس بسترس مرجعية المجمع الفاتيكاني الثاني في أمور الإيمان والأخلاق. ويخصص المطران قسما من كلامه للحديث عن الوحي الإلهي وطرائق فهم السياق البيبلي. في ذات الوقت يشدد المطران على وحدة الكتاب المقدس والوحي مؤكدا أن تفسير الوحي يخضع لحكم الكنيسة. [5]
وتؤكد الكنيسة الأرثوذكسية أن العهد القديم هو كلمة الله. ففي قاموس المسيحية الأرثوذكسية الشرقية (The Encyclopedia of Eastern Orthodox Christianity) يؤكد الباحث ثيودور (Theodore Stylianopoulos) أن الكنيسة الأرثوذكسية تعتبر النسخة السبعينية للعهد القديم كلمة الله الموحى بها. [6] فالنسخة اليونانية للعهد القديم تعكس النص الموجود في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد، ويقتبس العهد الجديد منها في كثير من المرات، واستخدم نصها آباء الكنيسة.[7] ويؤكد المطران الأرثوذكسي تيموثي وير تمسك الكنيسة الأرثوذكسية بالعهد القديم.[8] وتؤمن الكنائس المصلحة بالعهد القديم وبسلطته ككلمة الله الموحى بها. ونجد هذا التأكيد في كثير من المواقع. فعلى سبيل المثال لا الحصر يؤكد اعتراف ويستمنستر هذا الأمر. [9] ويؤكد بيان إيمان مجمع الكنائس الإنجيلية في إسرائيل إيمانهم بوحي أسفار العهد القديم.
في ضوء ما سبق، لا شك أننا نستطيع أن نفحص الكثير من العائلات الكنسية الأخرى كالسريان والأرمن والأقباط وغيرهم. ونستطيع أن نضيف بيانات ومراجع أخرى. الواضح لنا أن جميع الكنائس تقبل وحي العهد القديم وتستخدم أسفاره في كنائسها وعبادتها. وهذا هو موقفها الرسمي. في ضوء هذا الأمر، من المناسب أن يفحص الكهنة والقسس دورهم في تمثيل كنائسهم ونشر إيمان الكنيسة والالتزام به رسميا. أما بالنسبة لصراع الأفراد سواء أكانوا كهنة أم قسس أم غير ذلك، فعلينا ألا نستهين أو نستخف بهذه الصراعات التي استمرت عبر تاريخ الكنيسة. وندعو الله أن يعين القادة أن يتعاملوا مع هذ الصراعات بحكمة ومعرفة واجتهاد في الدراسة وتطوير إيمان مفكر ومستنير يحب الله من كل الفكر وكل القلب ويعتنق الإيمان بتواضع لا سيما في حضرة شعب وأبطال وبطلات الإيمان عبر العصور الذين آمنوا بكل أسفار الكتاب المقدس بعهديه ودافعوا عن هذه الأسفار بحياتهم حتى تصل إلينا. ولا ضير أن يتصارع الكهنة والقسس مع نصوص في العهد القديم لكن لا عذر لهم في عدم معرفة الموقف الرسمي لكنائسهم. ومن الأفضل التحلي بالتروي والحكمة والحوار المفكر في سبيل صياغة لاهوت يقدّر موقف المسيح ورسل العهد الجديد من نصوص العهد القديم. [10]
1] Dei Verbum 2, Vatican Council II, Vatican, November 18, 1965, Vatican Archives, Vatican, https://www.vatican.va/archive/hist_councils/ii_vatican_council/documents/vat-ii_const_19651118_dei-verbum_ar.html.
2] Ibid.
3] Robert Taft, "Eastern Catholic Churches (Orientalium Ecclesiarum)," in Modern Catholicism: Vatican II and After, ed. Adrian Hastings (London: SPCK/New York: Oxford University Press, 1991), 135–36. See also Robert Taft, “Eastern Catholic Theology: Slow Rebirth after a Long and Difficult Gestation,” Eastern Churches Journal 8 (2001): 51-80. Internet: https://www.melkitepat.org/ara/studies/theology.
4] See Hieromonk Elisha, “Identity and Theological Ethos of Eastern Churches,” Internet: https://www.melkitepat.org/studies/view/12.
5] كيرلس بسترس، "التعبير اللاهوتي والحداثة،" مقالات في اللاهوت والحركة المسكونية: المقالة الثانية عشرة (لبنان: المكتبة البولسية، 2001). انترنت: https://www.melkitepat.org/studies/view/21.
6] Theodore G. Stylianopoulos, “Bible,” in The Encyclopedia of Eastern Orthodox Christianity, ed. John Anthony McGuckin, vol. 1 (Malden, MA: Wiley-Blackwell, 2011), 71.
7] Alexandru Mihăilă, “The Septuagint and the Masoretic Text in the Orthodox Church(Es),” Review of Ecumenical Studies 10 (2018): 59.
8] Timothy Ware, The Orthodox Church (London: Penguin Books, 1997), 199.
9] The Westminster Confession of Faith, chap. 1, art. 1, The Westminster Standard, https://thewestminsterstandard.org/the-westminster-confession/.
10] للمزيد من المعلومات راجع، حنا كتناشو، مقدمة إلى العهد القديم (الناصرة: كلية الناصرة الإنجيلية، 2023).