
الملخص: يشهد المجتمع العربي الفلسطيني داخل إسرائيل تصاعدًا غير مسبوق في معدلات العنف والجريمة، وسط تقاعس مؤسسات الدولة عن توفير الحماية والعدالة. يتناول هذا المقال جذور الأزمة من منظور بنيوي وثقافي، محللًا مسؤوليات الفاعلين الاجتماعيين، ومقاربًا بين عقليات المجرمين من جهة، وعقليات الأفراد المتضررين من جهة أخرى، بما في ذلك مشاعر الخوف، الاتكالية، ولوم السلطة، إلى جانب إمكانات المقاومة الفردية ورفض الواقع القائم. يركّز المقال على الدور الممكن للمؤسسات الدينية، وتحديدًا الكنيسة، في مواجهة هذه الظاهرة. ومن خلال مراجعة تاريخية وتحليل نقدي، يُطرح إطار شامل لتجديد الخطاب المجتمعي وتعزيز الوظيفة الأخلاقية والاجتماعية للكنيسة. كما يستعرض المقال العلاقة المعقدة بين الدين والمجتمع والسياسة في سياق الأقلية المسيحية العربية الفلسطينية، ويبحث في الإمكانات اللاهوتية والتنظيمية للكنيسة المحلية للتصدي لواقع العنف والتهميش. يُختتم المقال بعرض نموذج مستوحى من تجربة الكنائس في مدينة نيويورك في الحد من الجريمة، بوصفه مثالًا يمكن الاستفادة منه في بلورة دور مسيحي فاعل ومتجدد داخل المجتمع الفلسطيني في إسرائيل.
الكلمات المفتاحية: العنف، الجريمة، المجتمع العربي الفلسطيني، الكنيسة، العدالة الاجتماعية، المسؤولية الاجتماعية، إسرائيل.
مقدمة: واقع متأزم في مفترق خطير
يشهد المجتمع العربي الفلسطيني داخل إسرائيل تصاعدًا خطيرًا في معدلات العنف والجريمة المنظمة، في ظاهرة تنذر بأزمة بنيوية تتجاوز البُعد الأمني أو الجنائي الضيق، لتطال أبعادًا اجتماعية، اقتصادية، سياسية ونفسية عميقة. ففي عام 2024، بلغ عدد ضحايا جرائم القتل في المجتمع العربي أكثر من 240 قتيلًا، في حين لم تُفك رموز سوى 36 جريمة فقط، أي ما نسبته نحو 15%، وفقًا لتقرير الكنيست الصادر بتاريخ 12 آذار/مارس 2025. هذا الواقع الصادم يعني أن قرابة 85% من مرتكبي جرائم القتل لا يزالون أحرارًا، ما يشكّل انتهاكًا فادحًا لحقوق المواطنين في الأمان والعدالة (الكنيست، 2025).
تعزز هذه المعطيات ما وصفه تقرير مركز تاوب للإحصاء (2024) بأنه "اتجاه تصاعدي مقلق" في معدل جرائم القتل في المجتمع العربي، حيث ارتفع العدد من 109 ضحايا في عام 2022 إلى 240 ضحية في عام 2024. وفي السياق ذاته، أشار تقرير نشره موقع "يافا 48" بتاريخ 12 آذار/مارس 2025 إلى وجود توقعات بارتفاع العدد إلى 273 ضحية مع نهاية عام 2025، في ظل تصاعد العنف وفشل الأجهزة الأمنية في وضع حدّ له.
وفي النصف الأول من عام 2025 وحده، ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت (2025)، بلغ عدد القتلى في صفوف المواطنين العرب 100 قتيل حتى نهاية شهر أيار، بزيادة عشرة قتلى عن الفترة نفسها من العام السابق. وقد تمكنت الشرطة الإسرائيلية خلال هذه الفترة من حل 10 جرائم فقط، أي ما يعادل 10% من الجرائم المرتكبة، وهو ما يعزز الشعور بانعدام الأمن، عدم الثقة في أجهزة انفاذ القانون، ويغذي ظاهرة الإفلات من العقاب (Ynet, 2025).
فشل مؤسساتي أم أزمة مجتمع؟
لا يمكن عزل هذا الوضع عن السياق السياسي والمؤسسي الأوسع. فوفقًا لشهادات متزايدة من داخل المجتمع العربي، تتهم قطاعات واسعة من المواطنين العرب الحكومة الإسرائيلية والشرطة بالتقاعس المتعمّد، بل وحتى بالتواطؤ، في التصدي للجريمة، باعتبار أن هناك "سياسة مقصودة" تهدف إلى إنهاك المجتمع العربي وتركه فريسة للجريمة المنظمة (Hasisi et al., 2020). وقد أشار عضو الكنيست موشيه سعادة، القائم بأعمال رئيس لجنة الأمن الوطني، إلى ضرورة استخدام أدوات مثل المصادرة الإدارية وبرامج التجسس لمحاربة الجريمة، إلا أن القيود القانونية والسياسية – لا سيما من جانب المستشارة القضائية للحكومة – تعيق تنفيذ هذه السياسات (Ben-Porat, 2020; Hassanein, 2016 ;الكنيست، 2025).
وفي ظل غياب الردع، تتزايد جرأة المجرمين: لم يعد القتل حكرًا على ساعات الليل، بل يحدث في وضح النهار؛ ولم يعد يُرتكب بشكل فردي، بل يتخذ أشكالًا جماعية، تشمل مذبحة مزدوجة أو ثلاثية، وحتى رباعية وخماسية، وهو ما يدل على تحوّل في نمط الجريمة إلى ما يشبه الانفلات الأمني البنيوي. ورغم إنشاء بعض مراكز الشرطة في البلدات العربية، فإن أثرها في خفض معدلات الجريمة لا يزال محدودًا، حتى في الحالات التي تدخل فيها جهاز الأمن العام (الشاباك) للتحقيق.
إضافة إلى التهديد المباشر للحياة والأمن، تسهم الجريمة والعنف في دفع العائلات العربية إلى "التهجير الذاتي"، بحثًا عن مناطق أكثر أمانًا، سواء داخل إسرائيل أو خارجها، مما يؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي وهجرة الكفاءات. ويُفاقم من خطورة هذه الأزمة عدم شمول المتضررين من العنف بقانون "ضحايا المخالفة" الإسرائيلي، ما دام التحقيق لم يفضِ إلى حل الجريمة، الأمر الذي يحد من قدرتهم على نيل الحقوق والدعم (الكنيست، 2025).
نعيش يوميًا تحت وطأة العنف المستشري في مجتمعنا العربي، نشعر وكأننا في حالة حرب دائمة داخل هذا المجتمع؛ حرب تتجلى في مسلسل متواصل من الجرائم التي تحصد الأرواح وتخلّف آلاف المصابين، سواء نتيجة للطعن أو لإطلاق النار. نحن نمر في سيرورة تغيير مركّبة، ونتحرك ضمن منظومة سياسية تفرض علينا واقعًا غير عادل، واقع يتفاقم فيه العنف والجريمة عامًا بعد عام. في ظل غياب أي رادع فعّال للمجرمين، لا يمكننا إلا أن نتوقع استمرار هذا العدد الكبير من الضحايا، بل وربما ازدياده في الأعوام القادمة.
مسؤولية مكافحة الجريمة تقع بالدرجة الأولى على عاتق الشرطة. لكن الواقع يقول إن الدولة ومؤسساتها لا تبذل الجهد الكافي للتصدي الجاد لآفة العنف والجريمة. حتى في الأوقات التي ينشغل فيها الرأي العام بالحرب أو بالأحداث الكبرى، تستمر الجرائم في مجتمعنا دون توقف. والمجتمع المدني، رغم إرادته، لا يملك الأدوات الكافية لمحاربة الجريمة المنظمة؛ فهذه مسؤولية الدولة ومؤسساتها.
هناك أدوات متاحة لمكافحة الجريمة: مثل سنّ التشريعات واستخدام وسائل تكنولوجية متقدمة، من بينها برامج التجسس. إلا أن استخدام هذه الأدوات يواجه عوائق سياسية، إذ تمنع المستشارة القضائية للحكومة الاستعانة بهذه البرامج رغم عدم وجود مانع قانوني واضح [1]. من هنا، يمكن – بل يجب – على رئيس الحكومة اتخاذ قرارات حاسمة تهدف إلى القضاء على الجريمة، ووقف استغلال هذا الملف سياسيًا، خاصة عندما يتعلق الأمر بحياة المواطنين في المجتمع العربي.
تعمل عصابات الجريمة ضمن نسيج المجتمع العربي، مستفيدة من ضعف إنفاذ القانون ومن فجوات معرفية وتقنية لدى الشرطة. فالمجرمون يدركون أن الشرطة المحلية تفتقر إلى القدرة على التعامل مع الوسائل التكنولوجية المعقدة التي تُستخدم في تنفيذ الجرائم، كأدوات التمويه الإلكتروني، والتخطيط الدقيق، وإخفاء الأدلة، مما يجعل من الصعب تتبّعهم أو تقديمهم للعدالة. وتُظهر التجربة الميدانية أن مراكز الشرطة المحلية، في معظمها، غير مجهزة للتعامل مع هذا النوع من الجريمة المنظمة، ما يستدعي تدخل وحدات شرطية متخصصة وذات طابع استخباراتي إقليمي.
وفي سياق متصل، أفاد تقرير نشره موقع "بانيت" بتاريخ 28 كانون الثاني 2025، أن الشرطة الإسرائيلية أوقفت نشاط لجان "إفشاء السلام" في عدد من البلدات العربية، وأخرجتها عن القانون، رغم أن هذه اللجان كانت قد مارست لسنوات دورًا مهمًا في إصلاح ذات البين في النزاعات المجتمعية. وبحسب التقرير، فإن السبب غير الرسمي وراء حظر عملها يعود إلى اقترابها من معلومات حساسة تتعلق بعصابات الجريمة، وهو ما فُسِّر على أنه ذريعة استخدمتها الشرطة بدعوى "تشويش مسار التحقيقات". وقد أثار هذا الإجراء انتقادات واسعة من قبل ممثلين عن الأحزاب العربية، الذين اعتبروا القرار تصعيدًا خطيرًا في سياسة تقييد المبادرات المجتمعية، وضربًا لمقومات الحصانة الذاتية داخل المجتمع العربي.
ورغم وضوح مسؤولية الدولة وأجهزتها في مكافحة الجريمة وضمان أمن المواطنين، سواء من حيث تقاعسها عن التصدي للجريمة أو من حيث فشلها البنيوي في حماية المواطنين العرب، فإن جذور الأزمة لا تقتصر على العوامل الخارجية وحدها. ورغم أننا لا نمتلك أدوات فعالة لمحاربة الجريمة المنظمة، إلا أنه قد تكون لدينا الإمكانيات والآليات لمناهضة العنف أو الوقاية منه داخل مجتمعنا. ولكن عندما نصل إلى مرحلة الإجرام، يصبح من الواضح أن استمرار هذا الواقع الدموي مرتبط أيضًا بعوامل داخلية، نفسية وثقافية، متجذّرة في بنية التفكير المجتمعي. إن أزمة العنف لا تقتصر على تقاعس الدولة، بل تمتد أيضاً إلى داخل النسيج الذاتي للمجتمع العربي، وتشمل أيضًا غياب مراجعة جادة من قبل الفرد والمجتمع لذاتهما ولأدوات المواجهة المتاحة لديهما.
كما يشير دويري (2025)، فإن "أنماط تفكير الضحية وطرق المواجهة التي تنتهجها هي الأوراق التي يمكن التحكّم بها". ومن أبرز هذه الأنماط: الخضوع للسلطة، إسقاط المسؤولية على العوامل الخارجية، والتفكير القدري. وهذه كلها أنماط معرفية تُعيق التغيير، وتُعيد إنتاج العجز، بل وتُسهم – من حيث لا تدري – في تغذية بيئة العنف ذاتها. ويضيف دويري أن "العقل المحاصر" في الثقافة العربية يشكّل بنية إدراكية تُقزّم الشعور بالمسؤولية، وتحوّل الضحية إلى كائن مفعول به دائمًا، لا فاعل في إعادة بناء واقعه. ومن هذا المنطلق، فإن مقاومة العنف لا تبدأ فقط بإصلاح السياسات الرسمية، بل تتطلب أولًا تحرير الفكر والوعي والسلوك من القيود الذهنية السائدة، والتي تعيق بناء مقومات التغيير الذاتي والمجتمعي.
لذا، لا يمكن اختزال ظاهرة العنف في بعدها الأمني أو الجنائي فحسب. بل يتطلب التعامل معها مقاربة شمولية، تشمل إصلاحات مؤسسية عاجلة في سياسات إنفاذ القانون، إلى جانب تدخلات تربوية وثقافية ومجتمعية تهدف إلى تحرير التفكير الجمعي من أنماط العجز والقدرية، وبناء بنية فكرية تسهم في تحمّل المسؤولية وقيادة التغيير من الداخل.
الكنيسة كفاعل روحي–اجتماعي: تحديات وسياقات
ماذا عن دور الكنيسة؟
في خضم الواقع المتفجّر بالعنف داخل المجتمع العربي الفلسطيني، تطرح تساؤلات مصيرية حول موقع الكنيسة ووظيفتها: هل تقتصر رسالتها على الجانب الروحي والطقوسي؟ أم أنها مدعوة للانخراط النبوي في قضايا المجتمع؟ وفيما يتعلّق بأنماط التفكير في الشخصية العربية بحسب ما ذكره دويري (2025)، يجيب الرسول بولس بقوله: «تَغَيَّروا عن شَكلِكُم بتَجديدِ أَذهانِكُم» (رومية 12:2)، داعيًا إلى تحوّل جذري في الوعي، لا يقتصر على البُعد الإيماني المجرد، بل يشمل البُعد المجتمعي الملموس. ويضيف سفر الأمثال: «افتح فمك لأجل الأخرس، في دعوى كل يتيم ومنسيّ... اقضِ بالعدل، وحامِ عن الفقير والمسكين» (أمثال 31:8-9).
منذ نكبة 1948 وتهجير معظم الشعب الفلسطيني، بقيت أقلية مسيحية عربية داخل حدود دولة إسرائيل الناشئة، وخضعت هذه الأقلية للحكم العسكري حتى عام 1966. خلال هذه المرحلة، شكّلت الكنائس المسيحية العربية إحدى الركائز الثقافية والاجتماعية في الداخل الفلسطيني حيث لعبت الكنائس دورًا مهمًا في حماية البنية المجتمعية الفلسطينية، وتوفير خدمات تعليمية واجتماعية وصحية، مستفيدة من شبكة العلاقات مع الكنائس العالمية.
يشير جوني منصور إلى أن الكنيسة ساهمت منذ فترة الانتداب البريطاني في بلورة الهوية الوطنية، وتعاظم هذا الدور بعد النكبة عبر حماية البنية المجتمعية والتعليمية (Mansour, 2025). إضافة الى دورها في تحقيق العدالة الاجتماعية ولم يكن هذا الحضور مجرد فعل طقسي، بل شمل تأسيس مدارس أهلية، ودور أيتام، ومراكز صحية ومشورة أسرية، كما في مؤسسات مثل "جمعية الشبان المسيحيين"، و"كلية بيت لحم للكتاب المقدس"، و"مركز طاليثا قومي"، وغيرها.
تاريخيًا، حافظت الكنائس في الداخل على استقلاليتها النسبية، وواصلت تقديم خدمات روحية وتربوية للمجتمع، مع التركيز على الحفاظ على الهوية المسيحية الفلسطينية. وقد ساهمت بعض الشخصيات الكنسية، مثل المطران إيلاريون كبوجي (الصايغ، 2023)، البطريرك ميشيل صباح للكنيسة اللاتينية الكاثوليكية والمطران عطا الله حنا، في رفع الصوت الفلسطيني في المحافل الدولية، مما أبرز دور الكنيسة ليس فقط كمؤسسة دينية، بل كفاعل وطني وشعبي.
تحديات الكنيسة المعاصرة
تواجه الكنيسة العربية الفلسطينية في إسرائيل تحديات مركّبة تشمل الجوانب السياسية، والاجتماعية، واللاهوتية، ما يفرض عليها ضرورة التفاعل مع الواقع المتغير، وتطوير خطابها وأدواتها لمواكبة هذه التحديات. ففي ظل السياسات القومية والدينية المتشددة، تتعرض الكنيسة لضغط مزدوج: من جهة الدولة الإسرائيلية التي تهمّش المواطنين العرب، ومن جهة التيارات الدينية الصهيونية التي ترفض المساواة أو الاعتراف بالفلسطينيين كمواطنين أصليين.
تعاني الكنيسة من تقاطع القمع القومي والديني، إذ تُهمّش كمكوّن ديني غير يهودي في دولة تعرّف نفسها بأنها "دولة قومية للشعب اليهودي" [2]. ويشير المطران منيب يونان إلى أن "الوجود المسيحي في فلسطين يواجه تحديات سياسية تهدف إلى تهميش دوره الوطني والروحي" (يونان، 2020).
إضافة إلى ذلك، أصدرت جمعية "جهود للتنمية المجتمعية"، بالشراكة مع البعثة البابوية في القدس، وبالتعاون مع الأمانة العامة للشبيبة المسيحية في فلسطين – "شبيبة موطن يسوع"، ومكتب التعليم المسيحي التابع للبطريركية اللاتينية في القدس، نتائج دراسة بعنوان "واقع واهتمامات واحتياجات الشباب المسيحي". استهدفت الدراسة التجمعات المسيحية في كل من الضفة الغربية، والقدس، وقطاع غزة، وأشارت إلى أن الكنيسة تعاني من تراجع في حضور الشباب، وانكفاء على الشكلانية الطقسية، في مقابل تحديات يومية تتطلب تجديدًا في الفعل والخطاب. وتضيف الدراسة أن "الشباب المسيحي يواجه تحديات تتعلق بالهوية والانتماء، مما يؤدي إلى ضعف المشاركة في الحياة الكنسية" (جهود، 2022). في ظل هذه المعطيات، برزت الحاجة إلى تطوير خطاب لاهوتي نقدي يتفاعل مع الواقع الفلسطيني، ويربط بين الإيمان والعمل الاجتماعي والوطني، بعيدًا عن الانعزال الطقسي أو الخطاب الروحي المجرد. ويشير أنطون دعيق (2021) إلى أن "الكنيسة بحاجة إلى لاهوت يواكب التحديات السياسية والاجتماعية، ويعزز دورها في المجتمع الفلسطيني".
ورغم أن الدراسة لم تشمل المسيحيين في الجليل وفلسطينيي الداخل المحتل، إلا أنّ نتائجها قد تعكس بصورة غير مباشرة قضايا مشابهة، نظرًا لتقاطع التحديات المرتبطة بالهوية والانتماء، وتراجع مشاركة الشباب في الحياة الكنسية في ظل واقع سياسي واجتماعي ضاغط. غير أنّ خصوصية مسيحيي الداخل، بوصفهم أقلية داخل أقلية في إسرائيل، قد تفرض سياقات إضافية تتعلق بعلاقتهم مع مؤسسات الدولة من جهة، ومع الانقسامات الكنسية الداخلية من جهة أخرى، ما يستدعي دراسات ميدانية خاصة تسلّط الضوء على واقعهم الفريد.
في ضوء هذه التحديات، من الضروري أن تعمل الكنيسة على تجديد خطابها وتفعيل دورها في المجتمع، من خلال تعزيز مشاركة الشباب، وتطوير لاهوت معاصر يواكب الواقع، والتفاعل مع القضايا السياسية والاجتماعية التي تؤثر على المجتمع الفلسطيني.
الكنيسة ودورها النبوي في مواجهة العنف والظلم
الكنيسة مدعوّة إلى أن تخرج من صمتها، وتعيد صياغة رسالتها من مجرد عبادة داخلية إلى شهادة حيّة في العالم. فهي كنيسة الملكوت، لا المؤسسات فقط؛ كنيسة تجرؤ على قول الحقيقة، ترعى المهمّشين، وتكون في آنٍ ملاذًا ومرآة للمجتمع.
في ظل هذا الواقع المأزوم والمشحون بالعنف، لا يمكن إعفاء الكنيسة – بوصفها مؤسسة روحية واجتماعية – من مسؤوليتها تجاه شعبها. فالدعوة إلى "تجديد الأذهان" التي أطلقها الرسول بولس في قوله: «تَغَيَّروا عن شَكلِكُم بتَجديدِ أَذهانِكُم» (رومية 12: 2)، ليست مجرد نداء روحي، بل دعوة لتحويل الوعي الجمعي نحو قيم العدالة والسلام. من هنا، يمكن للكنيسة أن تلعب دورًا محوريًا في كسر حلقة العنف من خلال تجديد أنماط التفكير السائدة.
فما الذي يمكن أن تفعله الكنيسة في هذا الإطار العنفوي؟
إن دور الكنيسة في المجتمع العربي الفلسطيني لا يمكن أن يقتصر على الشأن الروحي الضيق، بل يجب أن يتعداه إلى حضور نشط ونبوي في قلب المجتمع. فهي مدعوّة لأن تكون "نورًا وملحًا" (متى 5: 13–14)، تضيء عتمة الواقع الاجتماعي وتطهّر الفساد الفكري والسلوكي. ومن خلال مراجعة فكرية وروحية لأنماط التفكير التقليدية، واستلهام النماذج الناجحة عالميًا، تستطيع الكنيسة أن تتحول إلى محفّز للنهضة، ومرجع أخلاقي يواجه العنف ويصنع السلام.
في السياق الفلسطيني المأزوم، حيث تتفاقم ظواهر العنف والجريمة المنظّمة، تُطرح تساؤلات جوهرية حول مسؤولية المؤمن المسيحي في الدفاع عن العدالة الاجتماعية وحماية الضعفاء والمهمّشين. إن أحد الملامح الأساسية للروحانية المسيحية هو الانحياز للمظلوم والفقير، لا باعتبارهم فقط ضحايا لواقع ظالم، بل باعتبارهم مرآة تكشف عن جوهر إيماننا وأخلاقنا.
من الصمت إلى الشهادة: الكنيسة بين التبرير والتغيير
في هذا السياق العنيف، يرى د. يوسف كمال الخوري في مقاله "طالعات.. أين الكنيسة؟" أن الكنيسة لا تملك ترف الصمت، بل إن صمتها أمام الظلم هو خيانة لرسالتها الإنجيلية، ولقول المسيح نفسه: «إن فسد الملح، فبماذا يُملّح؟» (الخوري، 2022). ويؤكد الخوري أن العنف ضد النساء، كمثال صارخ على العنف المجتمعي، "ليس فقط خطيئة اجتماعية، بل خطيئة لاهوتية، لأنه اعتداء على صورة الله في الإنسان"، مشبّهًا إياه بجريمة قايين بحق هابيل، حيث إن دم النساء المعنّفات، مثل دم هابيل، يصرخ إلى الله طلبًا للعدالة.
في مقاله الآخر، "أحارسٌ أنا لأختي؟"، يدعو الخوري إلى قراءة لاهوتية نقدية للنصوص الكتابية، تسائل التفاسير التقليدية التي تبرّر العنف أو تتواطأ معه ضمنيًا. ويرى أن جريمة قايين لم تكن فعلًا لحظيًا فقط، بل ثمرة عقلية مشوّهة تتسامح مع الفكرة حتى تنضج إلى فعل. هذه العقلية، بحسب الخوري، تُشبه تلك التي تُبرّر العنف ضد النساء أو تلومهن عليه. ويضرب مثالاً بالمرأة السامرية التي وُصفت ظلمًا في بعض التفاسير بأنها "ساقطة"، رغم عدم وجود دليل نصّي على ذلك، داعيًا إلى قراءات أكثر عدلًا وإنصافًا (الخوري، 2020).
ويواصل الخوري تحليله بالربط بين الفكر والسلوك، مؤكدًا أن "السلوك العنيف ليس سوى تعبير متجسّد عن عقلية مريضة"، وأن التهرّب الجماعي من المسؤولية، كما فعل قايين عندما قال: «أحارسٌ أنا لأخي؟»، هو أحد أوجه الأزمة الأخلاقية في المجتمعات التي تشهد تصاعدًا للعنف.
في ضوء هذا التحليل، يوجّه الخوري نداءً واضحًا إلى الكنيسة لكي تتحوّل من منبر وعظ إلى ملجأ حقيقي للنساء المعنّفات ولجميع المهمّشين، من خلال تبنّي خطاب إنجيلي حيّ، يترجم الإيمان إلى عمل.
يشير هذا الطرح إلى أن الكنيسة في الداخل الفلسطيني لا يمكن أن تبقى محايدة أو مكتفية بذاتها في زمن يتصاعد فيه العنف والتهميش. فهي مدعوّة لا فقط إلى إعلان ملكوت الله بالكلام، بل إلى تجسيده بالفعل، كما جاء في رسالة بولس: «لَيْسَ بِكَلاَمٍ، بَلْ بِقُوَّةٍ» (1 كورنثوس 4:20). في السياق ذاته، يؤكد القس منذر إسحق أن الكنيسة الفلسطينية يجب أن "تشهد للحقيقة، وتدافع عن المظلومين، وتقاوم بالحب، وتبني السلام العادل" (إسحق، 2023).
إضافة إلى ذلك، يقترح جوناثان كتاب (2021) في مقاله "الحياة الإنجيليّة والسياسة" أن الكنيسة يجب أن تكون "كنيسة الشارع لا الهيكل فقط"، شاهدة للحقيقة، مدافعة عن المظلومين، وحاملة لرؤية بديلة لعالم يسوده الظلم. ويشكّل هذا اللاهوت منطلقًا لإعادة بناء العلاقة بين الإيمان والمجتمع، بحيث يصبح الإنجيل رسالة خلاص فعلي، لا مجرد تعزية رمزية.
الإيمان الحي: بين الفداء والعدالة الاجتماعية
لماذا يولي الله أهمية كبيرة للطريقة التي نعامل بها الفقراء والمحتاجين؟ لأن تعاملنا مع من لا يملكون شيئًا ليقدّموه لنا يكشف صدق قلوبنا ونقاء ضمائرنا. ففي حين قد تحكم مصالحنا أو طموحاتنا أسلوبنا في التعامل مع الأغنياء والمقربين، فإن تعاملنا مع الضعفاء يُظهر معدننا الأخلاقي الحقيقي. هل نُعطي كما أعطى المسيح، دون انتظار مقابل؟ وهل نقف إلى جانب الضحية لا بقوة السلاح، بل بقوة الحق؟
كما يقول سفر الأمثال:
"افتح فمك. اقضِ بالعدل. وحامِ عن الفقير والمسكين" (أمثال 31: 9)
ويضيف سفر ميخا:
"قد أَخبَرَكَ يا إنسان ما هو صالح، وماذا يطلبه منك الرب، إلا أن تصنع الحق، وتحب الرحمة، وتسلك متواضعًا مع إلهك؟" (ميخا 6: 8).
في ضوء هذه التعاليم، لا يمكن للمسيحي الحقيقي أن يبقى محايدًا أو صامتًا أمام المظالم. بل هو مدعوّ لأن يكون فاعلًا في مجتمعه، حاملًا رسالة المصالحة، مناصرًا للعدالة، ومقاومًا للعنف والخوف. الدعوة الإنجيلية ليست فقط دعوة إلى الصلاة والانعزال، بل إلى المشاركة في صنع "ملكوت الله" على الأرض، حيث يسود السلام والحق والرحمة.
في قلب هذا الإيمان تقف ذبيحة المسيح، الذي "بذل نفسه فدية عن كثيرين" (مرقس 10: 45)، كتعبير سامٍ عن ثمن الحرية الروحية التي نلناها. وهذا الفداء يلقي على عاتقنا مسؤولية أخلاقية لا تُستهان بها: أن نقف مع المظلوم، وأن نناهض قوى الظلم والعنف، ولو كلّفنا ذلك ثمنًا شخصيًا.
كما يُقال في السياق العسكري: "الحرية ليست مجانًا" – فما ننعم به من أمن وسلام دفع ثمنه آخرون بدمائهم. كذلك، فإن مواجهة الجريمة المنظمة والعنف المستشري في مجتمعاتنا تتطلب شجاعة وتضحية، خاصة من أولئك الذين يتبعون مَن قال:
"طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون" (متى 5: 9).
أن تكون مسيحيًا في سياق يسوده الظلم لا يعني فقط حمل إيمان روحي، بل أن تجسّد هذا الإيمان بالفعل، عبر الدفاع عن الحياة والكرامة، والعمل الشجاع من أجل العدالة.
الحضور الحمائي: نموذج نيويورك ودعوة الكنيسة إلى الفعل المجتمعي
في مطلع الألفية، تبنّت مجموعة من الكنائس في مدينة نيويورك نموذجًا مجتمعيًا مبتكرًا يُعرف باسم "الحضور الحمائي " (Protective Presence)، في أحياء تعاني من ارتفاع معدلات الجريمة والعنف. لا يقوم هذا النموذج على التبشير أو النشاط الديني التقليدي، بل على إرسال فرق رعوية متطوعة إلى الفضاءات العامة، بهدف توفير حضور إنساني نشِط في الشارع.
وقد تولّت هذه الفرق مهامًا متنوعة: الوساطة في النزاعات اليومية، تنظيم ورشات للتثقيف المدني، وإدارة برامج لإعادة دمج الشباب الخارجين من السجون في المجتمع. وبحسب تقرير مؤسسة Faith in Action (2014)، ساهم هذا التدخل الديني-المدني في خفض ملحوظ في نسب الجريمة وتعزيز الإحساس بالأمان المجتمعي، خصوصًا عندما جرى التنسيق بين هذه الفرق وبين المدارس والعائلات والشرطة المجتمعية.
هل يمكن تكرار التجربة محليًا؟
الجواب: نعم، بل إن تطبيق نموذج كهذا في السياق العربي الفلسطيني داخل إسرائيل ليس فقط ممكنًا، بل ضروريًا.
تُعتبر الكنيسة في هذا السياق إحدى المؤسسات القليلة التي ما زالت تتمتع بشرعية مجتمعية واسعة، وتشكّل مرجعية روحية وأخلاقية، خاصة في ظل ضعف البنية الاجتماعية، وتهميش فئات واسعة من السكان، وغياب الدعم الحكومي الفعلي للفئات الضعيفة.
إن الكنيسة مدعوة اليوم لممارسة دورها النبوي، لا فقط كمنبر وعظ، بل كقوة فاعلة في وجه النظام السياسي والاجتماعي الجائر. يقول الكتاب المقدس: "افتح فمك لأجل الأخرس، في دعوى كل يتيم ومنسيّ. افتح فمك. اقضِ بالعدل، وحامِ عن الفقير والمسكين" (أمثال 31: 8–9).
كنيسة لا ترفع صوتها في وجه الظلم تفقد مصداقيتها كمؤسسة روحية ورسالة خلاص. والحضور المجتمعي الفاعل للكنيسة لا يجب أن يقتصر على الجانب الديني، بل أن يمتد إلى أدوار علاجية وتربوية واجتماعية تسعى لتضميد الجراح، وإعادة بناء الثقة المجتمعية، ومقاومة العنف المنظم واليومي معًا.
تحرير الإيمان وتحرير الإنسان: الكنيسة كفاعل اجتماعي مقاوم
تمتلك الكنيسة القدرة على أن تكون فاعلاً نبويًا–اجتماعيًا، تتجاوز دورها التقليدي المحصور داخل الجدران والحجارة، لتتحول إلى صوت للمهمشين، وحيّز للعدالة، ومنبر للمقاومة اللاعنفية. في هذا السياق، يمكن النظر إلى الكنيسة كجزء أصيل من نضال الشعب الفلسطيني من أجل التحرر والمساواة، دون أن تتخلى عن هويتها الروحية.
يُعد لاهوت التحرير الفلسطيني، الذي عبّرت عنه شخصيات مثل نعيم عتيق (1989) ومنذر إسحق (2015)، إطارًا مركزيًا لفهم هذا الدور. إذ يُقرأ الإنجيل فيه باعتباره رسالة خلاص للفقراء والمظلومين، ودعوة لمواجهة الظلم والاحتلال من خلال أدوات العدالة والمصالحة والمحبة الفاعلة.
تقف الكنيسة العربية الفلسطينية في الداخل اليوم أمام لحظة مفصلية. إنها مطالَبة بتجديد خطابها، وتوسيع دائرة فعلها المجتمعي، وتعميق التزامها بقضايا العدالة والمساواة. فلا يجب أن تظل العلاقة بينها وبين المجتمع محصورة في إطار العبادة، بل يجب أن تتجذر كعلاقة مسؤولية ونبوة وشهادة.
وللنهوض بهذا الدور، تحتاج الكنيسة إلى تطوير خطاب لاهوتي مرتبط بالسياق الفلسطيني، يتناول قضايا النوع الاجتماعي، والعنف الأسري، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان. كما عليها أن تعزز شراكاتها مع المجتمع المدني الفلسطيني، وتوسّع من مساهمتها في مجالات التعليم، والإرشاد، والدعم النفسي. ويُستحسن أن تعيد النظر في قراءاتها التقليدية للنصوص المقدسة بما ينسجم مع قيم الإنجيل التحررية.
من التعليم إلى المقاومة الروحية - تاريخيًا، لعبت المدارس الكنسية دورًا مركزيًا في ترسيخ المعرفة وبناء الهوية. أما اليوم، فهي مدعوة للانتقال من التعليم التقليدي إلى أدوار تحصين نفسي وروحي. وذلك من خلال تطوير مناهج تربوية مرافقة تركز على حقوق الإنسان، نبذ العنف، وتعليم أدوات المواجهة اللاعنفية. إلى جانب ذلك، يمكن للكنيسة أن تؤدي دورًا فاعلًا في المقاومة الرمزية، من خلال دعم الفنانين، والكتّاب، والباحثين الذين يسهمون في إنتاج خطاب بديل يتحدى العنف والانهزامية، ويغرس قيم الرجاء والعمل المجتمعي.
من العقل المحاصر إلى الذهن المجدَّد - كما يقول دويري (2025): "التحرير يجب أن يبدأ بتحرير العقل من قيوده وقوالبه وأقفاصه". والكنيسة، إن أرادت أن تواكب هذه المهمة، عليها أن تعترف بمسؤوليتها في تشكيل وعي الناس. دورها لا يقتصر على تقديم العقيدة، بل يشمل إعادة تشكيل الذهنية العامة وفتح آفاق جديدة للفهم والمواجهة الفعالة. عليها أن تتحدى أنماط التفكير القدرية والاتكالية، وأن تزرع في الناس الشجاعة على التغيير والعمل.
من الرعوية التقليدية إلى الحضور الفاعل - يمكن للكنائس العربية الفلسطينية في الداخل أن تستلهم تجربة "الحضور الحمائي" عبر تأسيس فرق "رعوية اجتماعية" تنشط في الأحياء المتضررة. تقوم هذه الفرق بأدوار الوساطة وفض النزاعات، وترافق الشباب المعرضين للخطر، وتقدّم دعمًا نفسيًا للنساء ضحايا العنف، كما تعزّز ثقافة الحوار والتفاهم بديلًا عن العنف والانتقام. في ظل الغياب المؤسسي للدولة، يمكن لهذا "الحضور الرعوي" أن يُشكل قوة مدنية متجذّرة في القيم الإنجيلية، ومنخرطة في الاستجابة لاحتياجات المجتمع اليومية. كما يمكن للكنائس أن توفّر فضاءات آمنة للشباب والنساء، وأن تنشئ مراكز للإرشاد العائلي، ومبادرات لتوجيه الأطفال والمراهقين في البيئات المهمّشة نحو حياة أكثر توازنًا وعدالة.
الخلاصة: كنيسة الشهادة لا كنيسة الصمت – دعوة الله لنكون نورًا في وجه الظلمة
في خضم واقع يتّسم بالعنف، والظلم، وانهيار الثقة المجتمعية، تتجدّد أمامنا دعوة الله كمؤمنين أن نكون شهودًا أمناء لنور المسيح في هذا العالم. فالكنيسة ليست فقط جماعة تؤمن، بل جماعة تُرسَل. ففي سفر أعمال الرسل، يذكّرنا يسوع القائم بالرسالة الجوهرية: "لكنكم ستنالون قوة متى حلّ الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهودًا في أورشليم، وفي كل اليهودية والسامرة، وإلى أقصى الأرض" (أعمال 1:8).
إنها دعوة واضحة إلى شهادة نشطة – شهادة تتجسّد في الإعلان عن ملكوت الله، لا بالكلام فحسب، بل بالحضور والعمل والمرافقة. "اذهبوا إلى العالم أجمع" ليست فقط نداءً تبشيريًا، بل نداءً للانخراط في قلب المجتمعات الجريحة، ولتجسيد عدالة الله ورحمته وسلامه في واقع يومي مثقل بالانكسارات.
نحن مدعوون لأن نشهد للحق، نفضح الظلم، ونكون أدوات للمصالحة، لا بسلطان بشري، بل بقوة الروح القدس. لا بخوف أو تردد، بل بثقة في أن النور أقوى من كل ظلام.
وقد عبّر اللاهوتي الألماني ديتريش بونهوفر في كتابه رسائل من السجن (1951)، الذي واجه النازية وسُجن واستُشهد، عن هذا المعنى حين كتب: "الكنيسة فقط عندما تكون كنيسة من أجل الآخرين."
في عالمٍ يتعطّش إلى المعنى، والحق، والرجاء، تبقى شهادة الكنيسة ليست في الموعظة فقط، بل في التجسّد العملي للإيمان: في الدفاع عن المظلومين، في مرافقة المنكسرين، وفي بناء سلام حقيقي وعادل.
فالشهادة الحقيقية ليست موقفًا مؤقتًا، بل نمط حياة. وفي النهاية، يبقى السؤال الأهم ليس فقط: ما هو دور الكنيسة؟ بل: أي كنيسة نريد أن تكون في قلب مجتمعنا الفلسطيني؟
[1] في السنوات الأخيرة ثار جدل واسع في إسرائيل حول استخدام الشرطة لبرامج التجسس مثل "بيغاسوس"، إذ منعت المستشارة القضائية للحكومة גלי בהרב־מיארה توسيع صلاحيات استخدام هذه الأدوات دون تشريع من الكنيست، معتبرة أن الأمر يمس بحقوق دستورية في الخصوصية. انظر: “Israeli Attorney General Doubles Down on Opposition to 'Political' Panel Probing Police Use of Pegasus Spyware.” Haaretz, 26 Sept. 2024
[2] يشير ذلك إلى قانون أساس: إسرائيل – دولة قومية للشعب اليهودي (2018)، الذي أقرّه الكنيست الإسرائيلي. انظر: כנסת ישראל (2018). חוק יסוד: ישראל – מדינת הלאום של העם היהודי