المقدمة
في عام 2018، أقر الكنيست الإسرائيلي "قانون أساس: إسرائيل – الدولة القومية للشعب اليهودي"، المعروف اختصارًا بـ"قانون القومية"، وقد أثار هذا القانون جدلًا واسعًا في الأوساط الحقوقية، السياسية، والدينية، داخل إسرائيل وخارجها، لا سيّما بسبب ما يحمله من مضامين إقصائية تجاه المواطنين الفلسطينيين في الداخل ومخالفة لمبادئ المساواة والعدالة.
صدر قانون القومية وسط تصاعد خطاب الهوية القومية اليهودية وصعود التيارات اليمينية والدينية القومية في إسرائيل. وقد جاء في سياق محاولات متكررة لتعريف هوية الدولة قانونيًا، لكنه هذه المرة اتخذ طابعًا إقصائيًا صريحًا، مستندًا إلى أيديولوجية ترى في إسرائيل "دولة يهودية فقط"، لا "دولة يهودية وديمقراطية" كما كان يُروج سابقًا. كما ويشكل "قانون القومية" الإسرائيلي محطة محورية في تطور البنية القانونية والدستورية لدولة اسرائيل، حيث يُثبّت بصورة رسمية هوية الدولة كـ"دولة يهودية" ويمنح امتيازات قانونية حصرية لليهود على حساب غيرهم من المواطنين، خصوصًا الفلسطينيين في الداخل.
لفهم البعد اللاهوتي والحقوقي لهذا القانون، من الضروري أولاً تحليل مضمونه وسياقه السياسي والاجتماعي، ثم دراسة انعكاساته على مفاهيم المساواة، العدالة، والكرامة الإنسانية. وفيما بعد، قراءة هذا القانون من زاوية لاهوتية أخلاقية، تأخذ بعين الاعتبار تعاليم الكتاب المقدس بشقيه، العهد القديم والجديد، ورؤية الإيمان المسيحي والكنيسة لمفاهيم العدالة، الكرامة الإنسانية، والمساواة، وذلك في ضوء لاهوت الشأن العام الذي يدعو إلى التزام الكنيسة بالقضايا المجتمعية والسياسية بوصفها تعبيرًا عن الإيمان العملي.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل موقف الكتاب المقدس من القومية والتمييز، وتسليط الضوء على مسؤولية الكنيسة في مواجهة السياسات الظالمة، لا سيّما في السياق الفلسطيني، وتسعى إلى إبراز مساهمات لاهوتيّ الشأن العام، خصوصًا في فلسطين واسرائيل، في تقديم قراءة نقدية لهذا القانون، انطلاقًا من لاهوت تحرري يجمع بين الإيمان والمقاومة السلمية من أجل العدالة. كما وتأتي هذه الدراسة في إطار دعوة إلى الكنيسة والمؤمنين للانخراط النبوي في القضايا المعاصرة، وعدم الانغلاق داخل جدران العقيدة أو الروحانية المنعزلة، بل التفاعل مع الواقع بروح الإنجيل، حيث يكون الإيمان قوة محرِّكة نحو تحقيق إرادة الله في العدالة والسلام بين جميع الشعوب دون تمييز.
قانون القومية الإسرائيلي – الخلفية والتحليل
يهدف هذا الفصل إلى تقديم فهم شامل لقانون القومية الإسرائيلي، المعروف رسميًا بـ "قانون أساس: إسرائيل – الدولة القومية للشعب اليهودي"، الذي أُقر في 19 تموز 2018. ويتناول هذا الفصل الخلفية التاريخية والتشريعية التي أدت إلى إقراره، ويحلل بنوده الرئيسية، ويستعرض التبعات القانونية والاجتماعية المترتبة عليه، بالإضافة إلى رصد أبرز ردود الفعل.
لفهم قانون القومية، من الضروري العودة إلى جذور تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، حيث كانت هناك نقاشات مستمرة حول طبيعة هويتها: هل هي دولة ديمقراطية لكل مواطنيها أم دولة قومية للشعب اليهودي بشكل حصري؟ ويشكل وعد بلفور (1917) وصك الانتداب (1922) الأساس للشرعية الدولية لإنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين. كما أكد إعلان قيام دولة إسرائيل (1948) على طابعها اليهودي مع وعد بالمساواة الكاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع المواطنين "دون تمييز في الدين أو العرق أو الجنس"، غير أن هذا التوتر بين الطابع اليهودي والديمقراطي ظل سمة أساسية في الخطاب السياسي والقانوني الإسرائيلي. وقد أُصدرت قوانين مثل قانون العودة (1950) الذي يمنح اليهود حول العالم حق الهجرة إلى إسرائيل والحصول على جنسيتها، وقانون الجنسية (1952)، والتي أسست لتمييز منهجي لصالح اليهود.¹
الجذور القانونية والتاريخية لإسرائيل ليست مجرد عملية دولة طبيعية، بل هي منظومة متكاملة من القوانين والقرارات التي صممت لترسيخ طابع إثني يهودي مهيمن مع إقصاء ممنهج للفلسطينيين. من إعلان بلفور مرورًا بقوانين العودة والجنسية، وصولًا إلى قانون القومية، تتجلى سياسة رسمية تستهدف التمييز العرقي والوطني. وقد جاء قانون القومية لترسيخ الهوية اليهودية للدولة على مستوى دستوري أو شبه دستوري ويأتي نفاذ القانون بأغلبية مطلقة من أعضاء الكنيست وفق البند الحدي عشر منه 2. وذلك بهدف وضع هذا الطابع اليهودي فوق أي نقاش أو تحدٍ مستقبلي، وقد جادل مؤيدوه بأنه ضروري لتعزيز الهوية اليهودية للدولة، ويعكس هذا القانون أيضًا بوضوح الاستراتيجية المؤسساتية التي تهدف إلى ترسيخ تفوق الهوية اليهودية على حساب الأقليات، وعلى رأسها المواطنون الفلسطينيون.
من الجدير ذكره أن في إسرائيل، لا يوجد دستور مكتوب بحد ذاته، بل سلسلة من القوانين الأساسية التي تعمل كبديل دستوري، تحدد صلاحيات مؤسسات الدولة، وتنظم الحقوق، وتُعتبر أعلى من القوانين العادية. وتُعد هذه القوانين حجر الزاوية في النظام القانوني الإسرائيلي، وتتطلب أغلبية خاصة لتعديلها.¹
يتكون قانون القومية من عدة بنود رئيسية (11 بندا) تحمل دلالات عميقة وتداعيات واسعة. من أبرزها:
البند الأول الذي ينص على أن "أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي، وفيه أقيمت دولة إسرائيل"، و"دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وهي المكان الذي يمارس فيه حقوقه الطبيعية، الثقافية، الدينية، والتاريخية لتقرير المصير"، مع التأكيد أن "ممارسة حق تقرير المصير القومي في دولة إسرائيل هي حصرية للشعب اليهودي". وهذا البند هو جوهر القانون، حيث يكرس الإقرار بأن إسرائيل هي حصريًا "الدولة القومية للشعب اليهودي"، ويسلب حق تقرير المصير من أي مجموعة قومية أخرى داخل إسرائيل، بما في ذلك المواطنين الفلسطينيين الذين يشكلون حوالي 20% من السكان.²
البند الثاني يحدد رموز الدولة كالراية، الشعار، والنشيد الوطني (هاتيكفاه)، وهي رموز ذات طبيعة يهودية صهيونية حصرية، ولا تمثل التنوع الثقافي أو القومي للمواطنين غير اليهود، مما يعزز شعورهم بالتهميش.²
البند الثالث فيؤكد أن "القدس الكاملة والموحدة هي عاصمة إسرائيل"، وهو ما يكرس ضم القدس الشرقية ويتجاهل الوضع القانوني الدولي المتنازع عليه للمدينة، ويؤثر على حقوق الفلسطينيين فيها.²
البند الرابع يتعلق باللغة، حيث ينص على أن "العبرية هي لغة الدولة" وأن "للغة العربية مكانة خاصة في الدولة، وتنظيم استعمالها في مؤسسات الدولة سيكون بموجب القانون"، مع التأكيد على أن "لا يوجد في هذا البند مساس بالمكانة التي كانت ممنوحة للغة العربية قبل سن هذا القانون". إلا أن هذا البند يخفض مكانة اللغة العربية من لغة رسمية إلى لغة ذات "مكانة خاصة"، مما يثير مخاوف حول تأثيره على الخدمات العامة والمساواة اللغوية، خاصة بعدما كانت لغة رسمية بموجب أحكام الانتداب.²
البند الخامس، يكرس مبدأ لم شتات الشعب اليهودي والهجرة اليهودية إلى الدولة، حيث تنص المادة على أن "الدولة تكون مفتوحة للهجرة اليهودية ولم شتات الشعب اليهودي"، وهو ما يعيد التأكيد على مبدأ قانون العودة، مؤكدًا التفضيل الديني والقومي في الهجرة والجنسية، على حساب حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وهو ما يعتبر تمييزًا جوهريًا.²
البند السادس يعزز العلاقة بين الدولة والشتات اليهودي، حيث تؤكد المادة أن "الدولة تعمل على ضمان سلامة أبناء الشعب اليهودي، المواطنين أو غير المواطنين، في الشتات" وأن "الدولة تعمل على ضمان العلاقة بين الدولة وأبناء الشعب اليهودي في الشتات"، وهو ما يعزز مفهوم الولاء للدولة تجاه اليهود في الشتات أكثر من اهتمامها بالمواطنين غير اليهود داخل حدودها، مما يثير تساؤلات حول مبدأ المواطنة المتساوية.
البند السابع يربط الاستيطان اليهودي بقيمة قومية، حيث تنص المادة على أن "تعتبر الدولة تطوير الاستيطان اليهودي قيمة قومية، وستعمل على تشجيع ودعم إقامته وتوطيده"، وهو بند مثير للجدل، إذ يشرعن ويشجع التوسع الاستيطاني على حساب الأراضي الفلسطينية وحقوق أصحابها، بما في ذلك المستوطنات في الأراضي المحتلة.
أدى قانون القومية إلى تبعات قانونية واجتماعية عميقة، حيث رسّخ التمييز المؤسسي ضد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وجعلهم "مواطنين من الدرجة الثانية" من الناحية الدستورية. كما قوض القانون هويتهم كمواطنين متساوين، وفرض عليهم هوية قومية لا تتناسب معهم. وقد أدى القانون إلى تحديات قانونية في المحكمة العليا الإسرائيلية من قبل منظمات حقوق الإنسان والأقليات، رغم أن المحكمة أيدت القانون في نهاية المطاف، كما فاقم القانون التوترات بين المجموعات السكانية المختلفة في إسرائيل.
تباينت ردود الفعل على القانون بشكل حاد، حيث يرى مؤيدو القانون، معظمهم من اليمين الإسرائيلي، أنه ضروري لتأكيد الهوية اليهودية لدولة إسرائيل وحمايتها كدولة قومية في مواجهة التحديات الديموغرافية والسياسية، وأنه لا ينتقص من الحقوق الفردية للمواطنين. أما المعارضون المحليون، ومنهم المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل، فقد اعتبروه قانونًا عنصريًا وتمييزيًا يلغي وجودهم القومي ويقلل من شأنهم. كما وصفته الأحزاب العربية واليهودية المعارضة بأنه يقوض الديمقراطية الإسرائيلية، في حين أكدت منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية مثل "بتسيلم" و"عدالة" أنه يشرعن التمييز ويهدد حقوق الأقليات.
ينتقد يوسف جبارين قانون القومية الإسرائيلي باعتباره تشريعًا يرسخ نظامًا من الفوقية العرقية والدينية على حساب المساواة والحقوق المدنية للشعب الفلسطيني داخل إسرائيل. كما ويوضح أن القانون لا يكتفي بإعلان إسرائيل دولة للشعب اليهودي، بل يفرض ذلك كقانون أساسي دستوري يشرعن التمييز.³ وأشار جبارين، أنه لا يمكن الاستهانة بخطورة هذه القانون، وبأهمية طرح خطابا بديلا يفسر الموقف الديمقراطي، الإنساني والأخلاقي الرافض لهذا القانون، ويوضح الاسقاطات الخطيرة على مكانة المواطنين العرب الفلسطينيين، أهل البلاد الأصليين. فهو يتنكر لحقهم الأساسي بمواطنة متساوية في وطنهم، وبحقوق جماعية لقوميّتهم، ويضعهم في خانة "الضيوف" على أرضهم دون أي حقوق، ويجعلهم دستوريا، سكانا بلا دولة. بل وترسيخ هذا التصنيف في قانون أساس سيؤدّي إلى تفاقم الإقصاء المتواصل للفلسطينيّين، ويعمق من اغترابهم في وطنهم. يجري الحديث، إذًا، عن مشروع قانون تعلوه راية سوداء.
موقف الكتاب المقدس من العدالة، المساواة والشمولية
لطالما كان مفهوم المساواة بين جميع البشر ركيزة أساسية في اللاهوت المسيحي، حيث يتجذر بعمق في نصوص العهدين القديم والجديد من الكتاب المقدس. ولا يمكن مقاربة قانون القومية الإسرائيلي من منظور لاهوتي بمعزل عن العودة إلى النصوص التأسيسية في الكتاب المقدس، لفهم الكيفية التي يُقدَّم من خلالها مفهوم الإنسان، والشعب، والمواطنة في ضوء العلاقة مع الله. فالكتاب المقدس، في كل من العهد القديم والعهد الجديد، لا يكرّس مفاهيم التمييز أو التفوّق العرقي، بل يطرح رؤية لاهوتية تقوم على العدل، الرحمة، والشمولية. هذه الرؤية تؤكد كرامة كل إنسان بصفته مخلوقًا على صورة الله، وترفض كل نظام قانوني أو سياسي يُقصي أو يُهمّش فئة من الناس على أساس الانتماء القومي أو العرقي. من هنا، يصبح فحص قانون القومية الإسرائيلي من منظور لاهوتي ضرورة لفهم التوتر بين مشروع سياسي إقصائي من جهة، وتعاليم الكتاب المقدس الأخلاقية والإنسانية من جهة أخرى.
يُعد مفهوم "الشعب المختار" من المفاهيم المحورية والحساسة في اللاهوت الكتابي، خاصة في العهد القديم. إلا أنه كثيرًا ما يُساء فهمه، ويُختزل أحيانًا في نزعة تفوق قومي أو ديني تُستخدم لتبرير التمييز أو الإقصاء، كما يتجلى في بعض القراءات لقانون القومية الإسرائيلي. لكن القراءة المتعمقة لنصوص الكتاب المقدس، في ضوء الإعلان الإلهي الكامل وشمولية العدالة الإلهية، تكشف أن "الاختيار" ليس امتيازًا عنصريًا، بل هو دعوة إلى الخدمة والمسؤولية والقداسة، ضمن خطة إلهية خلاصية تشمل البشرية جمعاء.
ويناقش كريستوفر رايت مفهوم اختيار الله لإسرائيل، موضحًا أنه لا يتعلق بتمييز خاص أو تفوق عرقي، بل هو جزء أساسي من خطة الله الشاملة لفداء البشرية وإظهار رحمته وعدالته لجميع الأمم. يرى رايت أن اختيار إسرائيل لم يكن بناءً على استحقاقهم أو فضيلتهم، بل كان تعبيرًا عن نعمة الله وإرادته السيادية. اختيار إسرائيل كان يحمل في طياته مسؤولية كبيرة؛ إذ دُعيت لتكون "نورًا للأمم"، أي وسيطًا يعكس طبيعة الله وقيمه أمام بقية الشعوب. ويُظهر التاريخ الكتابي أن إسرائيل كانت نموذجًا مصغرًا للبشرية، حيث تتجلى من خلال نجاحاتها وإخفاقاتها كيفية تعامل الله مع الإنسان. كما يؤكد رايت أن الاختيار لم يكن غاية في حد ذاته، بل وسيلة لتحقيق وعد الله لإبراهيم بأن "تتبارك فيك جميع أمم الأرض" (تكوين 12: 3). وبذلك يصبح شعب إسرائيل أداة في يد الله لتحقيق مقاصده العالمية، حيث يسعى الله لجذب جميع الشعوب إلى نفسه. وفي النهاية، يجد هذا الاختيار اكتماله في شخص المسيح، الذي يجمع بين الاختيار الخاص والدعوة العالمية. فالمسيح هو الذي يحقق البركة لجميع الشعوب من خلال موته وقيامته، مُوسّعًا مفهوم "شعب الله" ليشمل كل من يؤمن به، بغض النظر عن عرقه أو أمته. وهكذا، يقدم رايت فهمًا عميقًا لمفهوم الاختيار ويربط بين نعمة الله ومسؤوليته الملقاة على عاتق شعبه في تحقيق إرادته الخلاصية.
يبدأ العهد القديم بمفهوم "الاختيار" بدعوة الله لإبراهيم: "وأجعلك أمة عظيمة وأباركك... وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض" (تكوين 12: 2-3). هنا يُعطى إبراهيم وعدًا بأن يكون نسله "أمة عظيمة"، لكن غاية هذا الاختيار ليست محصورة بإسرائيل وحدها، بل أن "تتبارك فيه جميع قبائل الأرض". وهذا يشير إلى دور شمولي؛ أن يكون نسل إبراهيم قناة للبركة الإلهية، وليس نقطة توقف لها. عليه، فإن "الأولوية" هنا هي أولوية الوظيفة والرسالة، وليست أولوية التفضيل المطلق.
في سفر الخروج، يُصوّر الله اختياره لبني إسرائيل بصيغة العهد المشروط: "إن سمعتم لصوتي... تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب... وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة" (خروج 19: 5-6). الكلمة العبرية "سْجُلَّا" (סְגֻלָּה) تُفيد الملكية الثمينة، لكن الآية تشدد على أن هذا الموقع مشروط بالطاعة والالتزام. كما أن وظيفتهم كـ "مملكة كهنة" تعني أنهم مدعوون لتمثيل الله أمام الأمم، لا لعزل أنفسهم عنهم. فهي مكانة خدمية لا هيمنة فيها، تقوم على التكريس لا التمييز. ويفصّل سفر التثنية سبب اختيار الله لشعبه، فيؤكد أنه ليس بسبب عددهم أو قوتهم، بل "من محبة الرب إياكم" (تثنية 7: 6-8) ووفائه لعهد الآباء. بهذا، يزول أي أساس للتفاخر أو ادعاء الامتياز القومي، وتُفهم الأولوية هنا على أنها عطية من النعمة الإلهية، لا نتيجة لاستحقاق بشري. 5
يشكل الوعد بالأرض محورًا أساسيًا في علاقة الله مع شعبه: "أعطيكم إياها ميراثًا" (خروج 6: 8)، لكن الأرض ليست تملّكًا مطلقًا، بل مشروطة بالعهد. يُبيّن العهد القديم مرارًا أن عدم الأمانة يؤدي إلى النفي أو فقدان الأرض (لاويين 26). حتى الهيكل – مركز العبادة – لم يكن مضمونًا، كما يتضح من خراب أورشليم عدة مرات. الأولوية في الأرض والهيكل إذًا هي أولوية عهد ومسؤولية، لا احتكار.
نعم، على الرغم من إعطاء إسرائيل وضعًا خاصًا، لا يتوقف العهد القديم عن التأكيد على شمولية عدالة الله ورحمته لجميع الشعوب ونرى ذلك أيضًا من خلال النقاط التالية:
- العدل للغريب والضعيف: "الرب... الصانع عدلاً لليتيم والأرملة، والمحب الغريب... فأحبوا الغريب" (تثنية 10: 17-19)، "ولا تضطهد غريبًا" (خروج 22: 21). هذه الآيات تضع معيارًا أخلاقيًا واضحًا ضد كل نزعة قومية، وتذكّر إسرائيل بأنهم أيضًا كانوا غرباء.
- رسالة الأنبياء الاجتماعية والكونية: "ليجرِ الحق كالماء، والبر كنهر لا ينقطع" (عاموس 5: 24)، "قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح... أن تصنع العدل" (ميخا 6: 8). الأنبياء حوّلوا التركيز من الطقوس إلى العدالة، ووجهوا نقدهم لبُنى الظلم، سواء داخل إسرائيل أو خارجها.
- خلاص الله يشمل الأمم الأخرى: "نورًا للأمم، ليكون خلاصي إلى أقصى الأرض" (إشعياء 49: 6)، يعكس سفر إشعياء لاهوتًا شموليًا لله، يرفض الانغلاق القومي ويؤكد دعوة الأمم للمشاركة في الخلاص. أي أن دراسة مفهوم "الشعب المختار" في الكتاب المقدس تظهر أنه لا يمكن عزله عن السياق الشامل لعدالة الله ورحمته. فالله الذي اختار إسرائيل، فعل ذلك لا ليعزلهم، بل ليستخدمهم في تحقيق مقاصده الشاملة. وكان دائمًا يذكّرهم أن مكانتهم مرتبطة بعهد مشروط، وأن غايتهم هي أن يكونوا نورًا للأمم.
- الأنبياء ونقدهم للتمييز والاستغلال: "تعلموا فعل الخير. اطلبوا الحق. أنصفوا المظلوم. اقضوا لليتيم. حاموا عن الأرملة" (إشعياء 1: 17). الأنبياء لم يدافعوا عن حقوق القومية اليهودية الضيقة، بل نادوا بالحق والعدالة الشاملة، ووقفوا مع الضعفاء والغرباء، رافضين الظلم المؤسسي.
نرى مما ذكر أنه بينما يذكر الكتاب المقدس اختيار الله الخاص لشعب إسرائيل، فإنه يوازن ذلك باستمرار مع شهادات قوية على عدالة الله المطلقة، ورحمته الشاملة، وخطته الخلاصية التي تشمل جميع الأمم. هذه النصوص تتحدى أي تفسير لاهوتي يعزز التمييز أو التفوق القومي على حساب الآخرين. 5
يضيف جمال خضر أن الله هو إله جميع الشعوب، ولا يمكن أن يكون إلهًا لشعب واحد، وحتى ولو اختار شعبًا فإن الجميع أبناؤه. نقرأ في الكتاب المقدس أن الله هو خالق كل شيء، وخالق الإنسان "على صورته كمثاله". ونفهم من هذه الآية، ومن مجمل الكتاب المقدس كذلك، أن الله منح الإنسان الحياة والكرامة والحرية بخلقه على صورته. وهذا يشمل الرجل والمرأة، وكل إنسان بغض النظر عن جنسه أو لونه أو أصله العرقي. كما أن جميع البشر هم مخلوقين من الله، وبالتالي هم جميعًا محبوبون من الله، الذي هو "أب لجميع الخلق وفوقهم جميعًا".
كما أن مفهوم العدل كما ورد في الكتاب المقدس هو معيار هام في قراءتنا للكتاب المقدس، وهذا هو المبدأ الذي نعتمد عليه لفهم العهد القديم. إذا قام أي لاهوتي بدراسة لنص يتناقض مع كون الله إلهًا عادلًا وصالحًا العهد القديم وتفسيرها، ونتج عن هذه القراءة وهذا التفسير ظلمٌ ما، فإن هنالك خللٌ كبيرٌ في هذا اللاهوت إلى حدّ أننا لا نستطيع أن نعتبره لاهوتا مسيحيًا.
إن أي تفسير للكتاب المقدس، خصوصًا العهد القديم، يجب أن يتم على ضوء تعاليم المسيح وأفعاله التي تجسد المحبة، العدل، والرحمة. النصوص التي تبدو عنيفة أو إقصائية تُفهم على أنها تعكس مرحلة من تطور الوعي البشري عن الله، وليست تعبيرًا عن طبيعته النهائية التي اكتملت في المسيح كما نرى أيضًا كيفية فهم النصوص التي تنسب لله أوامر بالعنف أو التدمير. ونؤكد أن هذه النصوص تعكس مرحلة من فهم الإنسان لله، لكنها تحتاج إلى تفسير يتماشى مع روح الإنجيل وتعاليم المسيح التي تركز على السلام والمحبة. ويوضح ميشيل صباح أن الوحي الإلهي جاء تدريجيًا ليواكب تطور فهم الإنسان، مما يجعل العهد القديم مقدمة ضرورية للعهد الجديد.7
إن فهم شواهد الكتاب المقدس يتطلب توازنًا دقيقًا بين الاعتراف بالاختيار الإلهي الفريد لإسرائيل في العهد القديم، وبين إدراك أن هذا الاختيار لم يكن مبررًا للتمييز أو التفوق العنصري، بل كان جزءًا من خطة أوسع لبركة البشرية جمعاء، حيث يُعمق العهد الجديد ويوضح مبادئ العدل والمساواة التي بدأت في العهد القديم، ويركز على شمولية الخلاص في المسيح، متجاوزًا أي حواجز عرقية أو قومية.
في العهد الجديد، يُفهم "اختيار إسرائيل" كمقدمة لتحقيق الخلاص في المسيح، الذي جاء من نسل إبراهيم وداود. من خلال يسوع، يُعاد تعريف مفهوم "شعب الله"، لا على أساس العرق أو النسب، بل على أساس الإيمان: "فإنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع... لا يهودي ولا يوناني... فإن كنتم للمسيح، فأنتم إذاً نسل إبراهيم، وورثة حسب الموعد" (غلاطية 3: 26-29). الكنيسة، من جميع الشعوب، تُشكّل "إسرائيل الله" (غلاطية 6: 16)، وتصبح الشمولية المبدأ الأساسي في عمل الله الخلاصي. وهذه الرؤية اللاهوتية التي تتجلى في فكر الرسول بولس تؤكد أن الخلاص في المسيح يزيل الفوارق بين البشر، مشددًا على وحدة الجسد الواحد في المسيح. بهذا، يُغلق الباب أمام أي استخدام لاهوتي حصري لمفهوم "الشعب المختار"، ويُفتح باب الرحمة والعدالة أمام الجميع. ففي اللاهوت المسيحي، يُنظر إلى اختيار إسرائيل كجزء من خطة الله الأكبر لخلاص البشرية من خلال المسيح، حيث يُعتبر المسيح تحقيقًا لبركة إبراهيم لجميع الأمم، والكنيسة (مؤمنون من كل الأمم) هي "إسرائيل الله" الجديدة، التي لا تميز بين الأعراق. نلاحظ هنا ان العضوية في شعب الله لا تعتمد على عرق أو جنس او مكانة اجتماعية، إذ أبطل الانجيل في المسيح كل الحواجز بين البشر. وقد شدد بولس أن العضوية في شعب الله مفتوحة اليوم بشكل متساو بين اليهود والأمم.
كما ويركّز تعليم المسيح على المحبة والعدالة كركيزتين أساسيتين في ملكوت الله، كما يتجلى ذلك في الموعظة على الجبل (متى 5–7)، التي تُعد دستورًا أخلاقيًا وروحيًا يتجاوز الشريعة الحرفية نحو فهم أعمق للعدالة والمحبة. ففي قوله: "طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ" (متى 5: 6)، يُشير "البر" إلى العدل، ما يربط بين الجوع الروحي والتوق إلى العدالة. كما يظهر البعد الجذري للمحبة في دعوته: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ" (متى 5: 44)، ما يتناقض تمامًا مع أي نزعة قومية تمييزية، ويفتح أفقًا لمحبة غير مشروطة تتجاوز الحدود القومية والدينية.
عند مقارنة قانون القومية الإسرائيلي بمبادئ الكتاب المقدس، تظهر تناقضات واضحة:
- الحصرية مقابل الشمولية: بينما يركز قانون القومية على حصرية "الشعب اليهودي" في حق تقرير المصير وفي تعريف الدولة، يدعو الكتاب المقدس، خاصة العهد الجديد، إلى شمولية
- البركة والخلاص لجميع الأمم، وإلغاء الحواجز العرقية والقومية في المسيح.
- التمييز مقابل المساواة: يكرس القانون التمييز على أساس العرق والدين (يهودي مقابل غير يهودي) في جوانب حاسمة مثل الهجرة والاستيطان، بينما ينادي الكتاب المقدس بالمساواة في الكرامة والعدل لجميع البشر، ويدين التمييز ضد الغريب والضعيف.
- الأرض والعدالة: يربط القانون الأرض ارتباطًا قوميًا حصريًا مع مجموعة واحدة ويدعم الاستيطان، في حين أن الكتاب المقدس يؤكد على أن الأرض هي ملك لله، وأن العدالة في استخدامها ورعايتها يجب أن تشمل الجميع، مع إعطاء الأولوية للضعيف والمضطهد.
يبرز منذر اسحق أن الأرض وفق العهد القديم هي كل الأرض وهي ملك الله الخالق وهو يعطي الأرض للإنسان كوكالة أو أمانة كي يعتني بها ويستخدمها لخير سكانها. ولأن الأرض أرض الله، فهي أرض تشترط القداسة. فلاهوت الأرض يعلّمنا أن الأرض تشترط على ساكنيها طاعة الله. لذا فقد كان السكن في الأرض جزءاً لا يتجزأ من العهد بين الله وإسرائيل. كما أن هذه الأرض هي كل الأرض وتحوي البعد الكوني والشمولي لكل شعوب الأرض. في العهد الجديد نلمس أن يسوع جاء إلى الأرض – أرض الميعاد – ليدشن ملكوت الله على كل الأرض وأن الملكوت هو الموضوع الرئيسي في الأناجيل. كما أن شعب الله في العهد الجديد قد توسّع هو أيضًا، ليتخطى الحواجز العرقية والحضارية والجغرافية حيث أن في كلام الله لإبراهيم أن في نسله ستتبارك جميع عائلات الارض، وأنه سيكون أبا لجمهور من الأمم، قد أصبح واقعا في العهد الجديد. وكلام المزامير أن مسيح اسرائيل سيرث الأمم، قد تحقق بمجيء المسيح وهو تحقيق لجميع النبوات.
ويُعدّ إعلان كايروس فلسطين 2009 تجسيدًا واضحًا لصوت نبوي يسعى إلى استعادة المعنى الأصلي للإنجيل. وتؤكد الوثيقة أن رسالة يسوع، بإعلان الملكوت، "أحدثت ثورة في حياة الإيمان البشري. جاء بتعليم جديد، يلقي ضوءًا جديدًا على العهد القديم، وعلى مفاهيم مثل الوعود، والاختيار، وشعب الله، والأرض." وتحذّر الوثيقة من القراءة الأصولية للكتاب المقدّس، التي تُحوّل كلمة الله إلى "حجر صلب" يُستخدم كأداة لنزع حقوق الإنسان وتجريده من كرامته. تقول: "إن تجميد كلمة الله وتحويلها إلى حرف ميت هو خطأ فادح... فالحرف الميت يُستخدم كسلاح ضدنا، لينكر علينا حقنا في وطننا."
وضح هذا الفصل أن الكتاب المقدس، بعهديه، يقدم إطارًا لاهوتيًا قويًا يؤكد على العدل الشامل، والمساواة بين جميع البشر، والمحبة غير المشروطة. فبينما كان هناك اختيار خاص لإسرائيل لأغراض معينة في خطة الله الخلاصية، فإن هذا الاختيار لم يكن مبررًا للتفوق العنصري أو القومي الدائم أو للتمييز ضد الآخرين. بل على العكس، فإن النصوص الكتابية تؤكد مرارًا وتكرارًا على أن عدالة الله تمتد إلى الجميع، وأن الإيمان الحقيقي يطالب بالمساواة، والرحمة، والمحبة لجميع البشر دون تمييز. هذه المبادئ تتناقض بشكل جوهري مع أي تشريع أو سياسة تعزز القومية الحصرية أو التمييز على أساس العرق أو الدين، مثل قانون القومية الإسرائيلي. أي أن تطبيق هذه المبادئ الكتابية يدعو إلى مجتمع يحترم كرامة كل فرد، ويعامل الجميع بعدل وإنصاف، ويدعو إلى السلام القائم على العدالة.
الكنيسة في مواجهة قانون القومية
إن الإيمان المسيحي ليس مجرد عقيدة فردية، بل هو دعوة للعدالة الاجتماعية والمشاركة الفاعلة في العالم. في سياق قانون القومية الإسرائيلي، الذي يثير تساؤلات جدية حول العدل والمساواة، وجدت الكنيسة المسيحية نفسها أمام تحدٍ لاهوتي وأخلاقي، دفعها للتعبير عن موقفها بناءً على مبادئ إيمانها.
لطالما كانت الكنائس المسيحية في الأراضي المقدسة، بتنوع طوائفها، جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي الفلسطيني. لذا، فإن أي تشريع يؤثر على الحقوق والوضع الاجتماعي للمواطنين الفلسطينيين يمس هذه الكنائس بشكل مباشر. وعقب إقرار قانون القومية، أصدر رؤساء الكنائس في القدس بيانات مشتركة تعبر عن قلقهم العميق إزاء القانون، مؤكدين أن القانون يقوض مبادئ المساواة والعيش المشترك، ويصنف المواطنين على أساس العرق والدين، مما يتعارض مع القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. شددت هذه البيانات على أن المسيحيين في الأراضي المقدسة هم جزء أصيل من الشعب الفلسطيني، ولهم تاريخ طويل في هذه الأرض، وأنهم يتوقعون المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات كمواطنين. كما عبّرت مجالس الكنائس والمؤسسات الكنسية المحلية عن مواقف واضحة تدعم العدالة والسلام المبني على الحقوق المتساوية، ونددت بمثل هذه القوانين التي تكرس التمييز. وعلى الرغم من اختلاف التقاليد بين الكنيسة الأرثوذكسية، والكاثوليكية، والبروتستانتية، إلا أن موقفها العام كان موحدًا في الدعوة إلى المساواة والرفض لأي تشريع يقوض حقوق المواطنين الفلسطينيين، مرتكزًا على الفهم المسيحي للكرازة بالعدالة والكرامة الإنسانية لكل فرد.
كما وظهر لاهوت التحرر الفلسطيني كاستجابة لاهوتية فريدة للواقع السياسي والاجتماعي في الأراضي المقدسة، مستلهمًا من حركات لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، لكنه متجذر في السياق الفلسطيني. ويتمحور هذا اللاهوت حول قراءة الكتاب المقدس من منظور المظلومين، والسعي إلى إيجاد معنى للإيمان في خضم الصراع والظلم، حيث يُنظر إلى الكتاب المقدس على أنه سجل لتدخل الله في التاريخ لتحرير المظلومين، من قصة الخروج إلى رسالة المسيح. ويؤكد هذا اللاهوت أن الخلاص لا يقتصر على الجانب الروحي الفردي، بل يشمل التحرر من كل أشكال الظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. كما يقدم نقدًا لاهوتيًا جذريًا للاحتلال والسياسات التمييزية، مؤكدًا تعارضها مع إرادة الله للعدل والسلام. كما ويشدد على أن المحبة الحقيقية تتطلب العمل من أجل العدالة، وأن الصمت على الظلم هو شكل من أشكال المشاركة فيه، ويؤكد أن المسيحيين الفلسطينيين هم جزء أصيل من الهوية الفلسطينية، وتجربتهم النضالية هي جزء من شهادتهم المسيحية.
يمكن القول بأن الرؤية اللاهوتية التحررية الفلسطينية، خرجت من رحم المعاناة التي عاشها الفلسطينيون وهذه الرؤية تقدم تفسيرا صحيحا لنصوص الكتاب المقدس ضمن السياق الفلسطيني وتتعرض هذه الرؤية للعديد من التحديات التي أكبرها هو التحدي للمسيحية الصهيونية.
ويركّز يوسف خوري على أبعاد العدالة الاجتماعية والسياسية في الإيمان المسيحي، ودور الكنيسة في الدعوة إلى التغيير، حيث يقدم تحليلات لاهوتية وأخلاقية تعزز من الدور النبوي للكنيسة الفلسطينية. ويشكل نقد لاهوت الصهيونية المسيحية محورًا رئيسيًا في هذا التيار اللاهوتي، إذ يعتبره لاهوت التحرير مغلوطًا أخلاقيًا ولاهوتيًا، لأنه يتجاهل معاناة الفلسطينيين ويتعارض مع المحبة المسيحية. كما ويضيف في مقاله "أي انجيل؟" أن الكنيسة الفلسطينية تسعى إلى استعادة المعنى الأصلي للإنجيل باعتباره بشارة تحرر لا أداة استعمار.
لم يقتصر رد الفعل على قانون القومية على الكنائس المحلية فحسب، بل امتد ليشمل منظمات وهيئات مسيحية عالمية، مثل مجلس الكنائس العالمي الذي أعرب عن قلقه إزاء القوانين التي تقوض مبادئ حقوق الإنسان والمساواة. كما وانتقدت السياسات الإسرائيلية التمييزية، ودعت إلى الضغط السياسي من أجل تحقيق المساواة. يطرح هذا القانون تحديات عميقة للإيمان المسيحي، تتطلب من الكنيسة أن تعيد التفكير بدورها النبوي وشهادتها للحق. فالمسألة تتعلق بكيفية الشهادة للمحبة والعدالة في بيئة قانونية تكرس التمييز، ودور الكنيسة في معارضة الظلم والدعوة إلى التغيير، وكذلك أثر القانون على العلاقات بين المسيحيين في الداخل، وعلى الوحدة الكنسية الأوسع. إن الموقف المسيحي من هذا القانون ليس فقط مسألة سياسية، بل هو تعبير حي عن الإيمان المسيحي حين يلتقي مع واقع الظلم والتمييز، فيدفع بالمؤمنين والكنائس إلى اتخاذ مواقف عملية تعكس جوهر الإنجيل: الكرامة لكل إنسان، والعدل للجميع، بلا استثناء.
نقاش - التناقضات والتحديات في قانون القومية
يكشف قانون القومية الإسرائيلي عن تناقضات عميقة مع جوهر الإيمان المسيحي، لا سيما من حيث تعارضه مع قيم الشمولية والعدالة الإلهية. بينما يرتكز القانون على مفهوم القومية الحصرية، مُعرّفًا إسرائيل بأنها "الدولة القومية للشعب اليهودي" ومحصورًا في حق تقرير المصير لليهود فقط، فإن هذا التحديد القانوني يُنتج بنية تمييزية تُهمّش المواطنين غير اليهود وتحد من مكانتهم وحقوقهم. يتجلى هذا التمييز في بنود مثل البند السابع الذي يعلي من شأن الاستيطان اليهودي كقيمة قومية، في حين يغيب أي اعتبار للمساواة أو الشراكة مع بقية المواطنين.
في المقابل، يقدم الكتاب المقدس رؤية شمولية، حيث يُصوّر الله كإله لجميع البشر، وعدله لا يقتصر على مجموعة عرقية أو دينية بعينها. في العهد القديم، يُفهم اختيار الله لشعب إسرائيل كوسيلة لتحقيق بركة لجميع الأمم، كما في وعده لإبراهيم: "وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض". وتتكرر الوصايا لحماية الغريب والضعيف، ويشدد على مفهوم العدالة الذي يتجاوز حدود الجماعة العرقية. ويبلغ هذا التوجه الشمولي ذروته في تعاليم المسيح، لا سيما في إعلان بولس بأن "ليس يهودي ولا يوناني... لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع"، وهو نص يُبطل أي مبرر لاهوتي للتمييز على أساس الأصل أو الجنس أو الانتماء الديني.
من منظور لاهوتي مسيحي، لا يمكن تبرير قانون القومية، لأنه يتعارض مع مبادئ مركزية في الإيمان.
أولاً، ينتهك القانون كرامة الإنسان، وهي مبدأ أساسي في المسيحية ينص على أن كل إنسان مخلوق على صورة الله ومثاله، ما يمنحه كرامة غير مشروطة. ثانياً، يتناقض القانون مع وصية المحبة التي تُلزم المؤمنين بمحبة الآخر، دون تمييز، بل حتى محبة الأعداء. ثالثاً، يُشوه القانون مفهوم العدالة، فبدلاً من أن تكون العدالة وسيلة لإقامة المساواة والحق، تتحول إلى أداة قانونية لشرعنه الامتيازات لجماعة دون أخرى. رابعاً، يُقوّض القانون رؤية ملكوت الله، التي تسعى إلى كسر الحواجز الاجتماعية والروحية بين البشر وبناء عالم من العدل والسلام. من هذا المنطلق، يصبح دور الكنيسة حيويًا في التصدي لهذا الواقع.
وعليه، فعلى الكنيسة أن ترفع صوتها النبوي، مستلهمة من تقاليد الأنبياء وتعاليم المسيح، لتكون صوتًا للذين لا صوت لهم، مدافعة عن المهمشين والمضطهدين، وعلى رأسهم المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل.
ينبغي على الكنيسة أن تدعو إلى التوبة من السياسات التمييزية، وتطالب بتشريعات تعكس قيم العدالة والمساواة. كما أن من مسؤولياتها تعليم لاهوت يتجاوز القومية الحصرية ويدافع عن الشمولية، ورفض التفسيرات اللاهوتية التي توظف الدين لتبرير الظلم. لقد ظهر هذا الموقف جليًا في أعمال لاهوتيّ التحرير الفلسطيني الذين يعيدون قراءة الكتاب المقدس من منظور الواقع الفلسطيني، مؤكدين أن رسالة المسيح تدعو إلى التحرير الشامل من الظلم، سواء كان سياسيًا أو اجتماعيًا أو دينيًا. إضافة إلى ذلك، تتحمل الكنيسة مسؤولية العمل على بناء جسور بين المجموعات المختلفة داخل المجتمع الإسرائيلي والفلسطيني، من خلال تشجيع الحوار والتفاهم والتعايش على أساس الاحترام المتبادل. في زمن تتعرض فيه القيم الإنسانية واللاهوتية للتهديد، تظل الكنيسة مدعوة لتجسد محبة الله وعدله في العالم، وأن تكون منارة للمساواة والرجاء في وجه التمييز والانقسام.
الخاتمة
لقد تناولت هذه الدراسة بشكل نقدي قانون القومية الإسرائيلي في سياق مبادئ العدل والمساواة المتجذرة في الكتاب المقدس والإيمان المسيحي، مع التركيز على استجابة الكنيسة. وكما كشفت الدراسة عن تناقضات جوهرية بين رؤية القانون الحصرية وبين الشمولية والعدالة التي ينادي بها الإيمان المسيحي.
إن قانون القومية الإسرائيلي يمثل تحديًا لاهوتيًا وأخلاقيًا كبيرًا للإيمان المسيحي. فهو يتناقض مع مبادئ العدل والمساواة والمحبة والشمولية التي هي في صميم رسالة الكتاب المقدس بعهديه. إن اعتباره "دولة قومية للشعب اليهودي" بشكل حصري، وتقديم حقوق تفضيلية على أساس العرق والدين، يُعد تمييزًا جوهريًا يتنافى مع كرامة الإنسان ومفهوم الله كإله للجميع. وبالنسبة للكنيسة والإيمان المسيحي، لا يمكن قبول هذا القانون كأمر واقع دون تحدٍ لاهوتي. بل يجب أن يكون نقطة انطلاق لدعوة نبوية مستمرة للعدل والمساواة والسلام، متجاوزة أي حواجز قومية أو عرقية، وتجسيدًا لرؤية ملكوت الله على الأرض.
وهنا تُطرح توصيات عدة موجهة إلى الكنائس المسيحية في الأراضي المقدسة وحول العالم، إذ يُطلب منها مواصلة الشهادة النبوية من خلال رفع الصوت ضد كل أشكال الظلم والتمييز، والدعوة إلى سن قوانين تضمن احترام حقوق جميع المواطنين دون تفرقة. كما يُشجع على تعميق لاهوت العدالة، من خلال تعزيز التعليم اللاهوتي الذي يربط بين الإيمان والعدالة الاجتماعية، وتدريب القادة المسيحيين على مواجهة الأيديولوجيات التمييزية التي تتعارض مع القيم المسيحية الأصيلة.
ومن المهم أيضًا الانخراط النشط في مشاريع الحوار والتعايش، والعمل على بناء جسور التواصل بين مختلف المجموعات السكانية، وتشجيع ثقافة الاحترام المتبادل والعدالة كأساس للتعايش. كذلك، تتوجه التوصيات إلى المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية، بضرورة الاستمرار في ممارسة الضغط الدبلوماسي والقانوني على إسرائيل من أجل إلغاء أو تعديل قانون القومية بما يتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتقديم الدعم المادي والمعنوي لمنظمات المجتمع المدني العاملة في إسرائيل وفلسطين التي تناضل من أجل المساواة والعدالة وحقوق الإنسان.
تفتح الدراسة كذلك آفاقًا بحثية مستقبلية، منها إجراء تحليل مقارن لقوانين القومية في دول أخرى لفهم تأثيراتها على الأقليات، ودراسة دور الحوار الديني بين أتباع الديانات المختلفة كوسيلة فعالة في التصدي للتشريعات التمييزية، بالإضافة إلى بحث أثر قانون القومية على الهوية المسيحية الفلسطينية في الشتات، واستكشاف إمكانات تدخل القانون الدولي في حماية حقوق الأقليات في البلدان التي تتبنى صبغة قومية أو دينية حصرية.
إن ما تخلص إليه هذه الدراسة هو أن الإيمان المسيحي الأصيل لا يمكن أن ينفصل عن واقع الشعوب وآلامها، وأن الشهادة المسيحية الحقيقية اليوم تتجلى في الالتزام العميق ببناء مجتمع عادل ومساوٍ، حيث تُصان كرامة الإنسان وتُحترم حقوقه، تحقيقًا لمشيئة الله العادل والمحب، كما أُعلنت في تعاليم المسيح وسيرته، وكما يتجلى في ضمير الكنيسة المؤمنة بحضور الله في قلب المظلومين والمنكسرين.
المراجع
- وزارة التربية والتعليم، السكرتارية التربوية، التفتيش على تعليم المدنيات، "مصطلحات أساسية في منهاج تعليم المدنيات في إسرائيل،" القدس، 2020،
- مركز عدالة، "نص قانون أساس: إسرائيل – الدولة القومية للشعب اليهودي،" 2018.
- يوسف جبارين، "قانون الدولة القومية والفوقية اليهودية،" المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2018.
- كريستوفر رايت، إرسالية شعب لله. لاهوت كتابي لإرسالية الكنيسة، ترجمة هدى بهيج يوسف. القاهرة: دار الثقافة، 2014.
- اسحق، منذر والزغبي، غریس. اللاھوت الكتابي. بیت لحم: كلیة بیت لحم للكتاب المقدس، 2017
- جمال خضر، "نحو قراءة مسيحية فلسطينية للعهد القديم،" في مدخل إلى اللاهوت الفلسطيني، تحرير منذر اسحق. ،بيت لحم: ديار للنشر، 2017.
- ميشيل صباح، قراءة الكتاب المقدس في أرض الكتاب المقدس. القدس، 1993.
- غلن ه.ستايس وديافيد بظ غوتشي، اخلاقيات الملكوت، مدرسة اللاهوت المعمدانية العربية، 2012 .
- منذر اسحق، أرض الميعاد: دراسة لاهوتية في السِّياق الفلسطيني. بيت لحم: كلية بيت لحم للكتاب المقدس، 2021.
- وقفة حق، كايروس فلسطين ، 2009 .
- رؤساء الكنائس الكاثوليكية في القدس يطالبون إسرائيل بإلغاء قانون “القومية"، القدس العربي، 2018
- مراد شمس الدين بريك، تأثير الرؤية اللاهوتية الفلسطينية على موقف الكنائس الانجيلية في الولايات المتحدة من الصراع العربي الإسرائيلي، رسالة ماجيستير ، جامعة النجاح الوطنية،. نابلس، 2022 . 39-42 ، 122.
- Yousef Kamal Alkhouri , Which Gospel? The Militarization of Sacred Texts in Israel’s Genocide in Gaza, International Journal of Public Theology 18 (2024) 488–508
- مجلس الكنائس العالمي والكنائس المحلية تعرب عن بالغ قلقها بشأن قانون الدولة القومية اليهودية، World Council of Churches ، 2018
تم كتابة هذه الوظيفة كقسم من برنامج الماجستير - لاهوت الشأن العام من كلية الناصرة الإنجيلية وكلية بيت لحم للكتاب المقدس


RSS