• الإيمانُ المسيحيُ في سياقِ غزةَ - بقلم القس الدكتور حنا كتناشو
الإيمانُ المسيحيُ في سياقِ غزةَ -  بقلم القس الدكتور حنا كتناشو

الإيمانُ المسيحيُ في سياقِ غزةَ: مستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح (2 كور 10: 5)

ليس من المُعتادِ أنْ نتحدَّثَ عنْ واقعِنا السّياسي من على منابر كنائسنا في إسرائيل، إلا أن كثافة الحديث عن غزة باسم الله والكتاب المقدس منذ السَّابع من أكتوبر يتطلب وقفة تأمل وصلاة لكي نستأسر كل فكر لطاعة المسيح (2 كور 10: 5). لقد قرأت في الآونة الأخيرة كتاب القس منذر إسحاق (Christ in the Rubble) وكتاب آخر شارك في تنقيحه القس متري الراهب (Theology After Gaza) والكتاب الذي نقحه الدكتور روس واغنر (Being Christian After the Desolation of Gaza) وشارك في كتابته الدكتور يوسف الخوري والدكتور أنطون دعيق والأخت ليزا لودن والدكتورة لمى منصور والدكتور دانيال بنوره.  [1] ثمّ قرأت كتاب (The Cross and the Olive Tree) الذي نقحه جون منير وصموئيل منير وشارك في كتابته الأخت مرح سارجي والدكتور يوسف الخوري والدكتورة لمى منصور وخادمة الرب شادية قبطي. [2] ودرست كتاب الدكتور سليم منير (Reconciling Justice). [3] ومؤخراً صدرت وثيقة كايروس الثانية، لحظة الحقيقة: الإيمان في زمن الإبادة. [4]

في ذات الوقت، أنتج الفكر الصهيوني كتابات من منظور مختلف. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كتبت الدكتورة جوديث روود كتاب (Beauty for Ashes: Understanding the Israel-Hamas War). [5] وهي مؤمنة بالمسيح من خلفية يهودية. وفي 12 ديسمبر 2023، شارك عدد كبير من المؤمنين بالمسيح من خلفية يهودية في كتابة وثيقة تأييد ومناصرة لإسرائيل يقولون فيها أنه يوجد نحو 1000 جندي من اليهود الذين آمنوا بالمسيح وهم يشاركون على الخطوط الأمامية في "الدفاع عن إسرائيل" وثلاثة منهم فقدوا حياتهم. [6] ولقد ازدادت هذه الأرقام بعد سنتين من 7 أوكتوبر 2023. ويضيف الدكتور ميتش جلاسر أن الشيطان وكراهية المسلمين للشعب اليهودي هي السبب وراء أوكتوبر 7. [7]

لقد تنوعت المواقف الأخلاقية والرُّوحية مما يُلزمنا أنْ نواجهَ التَّحدياتِ السياقية والكنسية المعاصرة بنورِ المسيح وبالتَّحلي بالإيمان الإنجيلي الَّذي تمسَّك به كُتَّابُ العهدِ الجديدِ. ولهذا سأتحدّث إليكم اليومَ في خطوتين. أصف أولاً واقعَنا بصورةٍ شخصيةٍ ثُمَّ أُقدّمُ بعضَ المبادئِ البيبليةِ الَّتي من الضَّروري أنْ نتَّمسكَ بها في هذا الزَّمان، وربما في كلّ زمانٍ. وأُشدِّدُ أنْ وصفيَ للواقعِ لا يسعى إلى الشُمولية أو الحيادِ بل إلى تقديمِ التَّحدياتِ من منظور خادمٍ فلسطيني ومواطن إسرائيلي سعى إلى نشرِ الإيمانِ والمحبةِ المسيحيةِ في كُلّ الظّروف. أضف إلى ذلك، إنَّ مبادئَ الإيمانِ التي أطرحُها هنا مستنبطةٌ من كلمةِ اللهِ وضروريةٌ لتأَملِنا في هذا الزَّمان الصَّعب. لهذا استخدمتُ العنوانَ: الإيمان المسيحي في سياق غزة. فأنا لا أريد أنْ أعيشَ الإيمان في معزلٍ عن واقعي السياسي ولا أريدُ أنْ أواجهَ الواقعَ السَّياسيَّ في معزلٍ عن إيماني المسيحي. 

السياقُ السَّياسيُّ

واجهت بلادُنا صراعاتٍ وحروبًا متعددةً في كلِّ عقدٍ من القرنِ الماضي. يكتب الدكتور خالدي عن تاريخ بلادنا ويأطر التاريخ بست إعلانات حرب: 1917-1939، 1947-1948، 1967، 1982، 1995، 2000-2014. تاريخُنا مليءٌ بالحروبِ. فمنذ وعد بلفور عام 1917 وحتَّى الرَّئيس ترامب عام 2017، كانت بلادُنا هدفًا للقوى العظمى التي تجاهلت شعبنا "متحدثة عنهم أو من فوق رؤوسهم، أو متظاهرة بأنهم غير موجودين. [8]

هذه الحروب جزءٌ من تاريخ حياتنا وعائلاتنا وبلادنا. فالحرب التي اندلعت عام 1948 غيّرت مصيرَ بلادِنا. وانحرم أكثر من 70% من سُكّان أراضي عام 1948 من العودة إلى ديارِهم بعد الحرب. وهكذا أصبح قسم كبير من شعبنا، بما فيهم عائلة والدي، لاجئينَ. بينما آخرون، ومنهم والدا زوجتي، أصبحوا نازحين داخليًا ومُنِعوا من العودة إلى منازِلهم. هذه ذكرياتٌ مؤلمةٌ في حياة عائلتي. ألمُهُم هو ألمي.

لقد أصبح هذا الواقع مساحةً خصبةً لتغذية الكراهية والرغبةِ في الانتقام والمزيد من الحروب. في عام 1967، وُلِدتُ وسطَ حربٍ أخرى، وعانيت المزيدَ من الألم والصَّدماتِ حتَّى كطفلٍ. في عام 1967، احتلت إسرائيلُ غزةَ. واستمرت إسرائيلُ في مواجهة حروبٍ مع العديد من الخصوم، بما في ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، مصر وسوريا ولبنان والعراق وإيران والفلسطينيين. وُلِدتُ في حرب 1967؛ وكنت في السّادسة من عمري عندما اندلعت حربُ يوم الغفران عام 1973. كنت في الخامسة عشرة من عمري أثناء حرب 1982 مع لبنان؛ وكنت في الثامنة عشرة من عمري عندما واجهت إسرائيلُ حزبَ الله في لبنان عام 1985. في عام 2002 تخرجت من المدرسة والتحقت بجامعة بيت لحم. ثم واجهت الانتفاضة الأولى عام 1987 واعتُقِلتُ مع طلاب صفي لمجرد ذهابنا لحضور حصة في الجامعة. فخلال الانتفاضة الأولى، أُغلقت الجامعات الفلسطينية لمدة ثلاث سنوات تقريبًا. لقد خسرت حقي في الدراسة وعانيت من البطالة. لكن الأمور كان يمكن أن تسوء أكثر.

خلال الانتفاضة الأولى، اضطر والداي وإخوتي إلى مغادرة البلاد بعد أن أطلقَ جنديٌ إسرائيليٌ النَّارَ وقتل أحد أصدقاء أخي الأصغر. كانت والدتي قلقةً بشأن غضب أخي الشاب المراهق. غادرت العائلةُ إلى أستراليا لكنها لم تعد كما كانت أبدًا؛ لقد تفرقنا. أرى والديّ مرة كل بضع سنوات. حُرِم والداي وإخوتي من الإقامة في بلدهم لأنَّ إسرائيلَ ألغت إقامتهم في القدس، على الرَّغم من أن هذه هي البلد التي وُلِدوا وعاشوا فيها حياتهم كلها. علاوة على ذلك، وبسبب سياسة إسرائيل خلال الانتفاضة الأولى، تخرجت بعد أن استثمرت سبع سنوات من حياتي بدلاً من أربع سنوات للحصول على درجة البكالوريوس. ثم في عام 1993، استقبلت اتفاقيات أوسلو بحماس كبير، لكن هذا الحماس بدأ في التضاؤل بسبب الحقائق على الأرض: المزيد من الحواجز ونقاط التفتيش، والمزيد من مصادرة الأراضي، والمزيد من العنف. وبفضل نعمة الله، سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمتابعة المزيد من الدراسات. حصلت على درجتين علميتين أخريين في 1995-1999: ماجستير في الدراسات اللاهوتية وماجستير في الإلهيات. في عام 2000، عدتُ للتدريس في كلية بيت لحم للكتاب المقدس. في العام نفسه، واجهت الانتفاضة الثانية التي عانت من مقاومة مُسلحة وسفكِ دماءِ الكثيرين من الأبرياء. في عام 2001، كنت أصلي أنا وزوجتي كل يوم عند ذهابي إلى العمل وأحتضنها قبل المغادرة لأنني لم أكن متأكدًا من أنني سأنجو وأعود إلى المنزل. في العام نفسه، ذهبت أنا وزوجتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمتابعة الدكتوراه في جامعة ترينيتي الدولية في ولاية إلينوي. وأشكر الله أن الانتفاضة الثانية انتهت خلال فترة وجودنا في الولايات المتحدة. عادت زوجتي قبلي، ثم عدت أنا في بداية عام 2007؛ كنت في التاسعة والثلاثين من عمري ولدي ثلاثة أطفال صغار. لكن التحديات السياسية والعنصرية مستمرة. يوجد الآن جدارٌ ضخمٌ يفصل الضفة الغربية عن إسرائيلَ. وهناك المئات من نقاط التفتيش، وتستمر مصادرة الأراضي.

قبل عامين من عودتي، في عام 2005، قامت إسرائيل "بالانسحاب" من غزة لكنها احتفظت بالسيطرة العسكرية والاقتصادية والإدارية.[9]  أكملت إسرائيلُ إخلاء العديد من المستوطنات في قطاع غزة لكنها حافظت على قيود صارمة على الحركة والوصول. وفازت حماس بالانتخابات عام 2006. وفي عام 2007، حاربت حماس ضدَّ فتح وشكلت سيطرة حصرية على غزة. وفي 7 أكتوبر 2007، قُتِل رامي عياد، وهو خادمٌ مسيحيٌ في جمعية الكتاب المقدس. قُتلَ على يد متطرفين مسلمين. صُدِمت أنا والآخرون الذين عرفوا خدام جمعية الكتاب المقدس والعديد من أفراد عائلة رامي وشركائه في الخدمة. ترك رامي زوجتَه بولين وطفلته التي لم تولد بعد. أصبحت بولين إحدى طالباتي في كلية بيت لحم للكتاب المقدس. وقصتها تُذكّرنا باستمرار بوجود عدد من المتطرفين المسلمين في فلسطين الذين يُعانون من خطية التطرف الديني. في عام 2012 أثناء الحصار على غزة، عملتُ أنا والقس جون أنجل على تأسيس مركز غزة للدراسات اللاهوتية. قمنا بتجنيد طلاب بكالوريوس وماجستير لمتابعة درجات لاهوتية. على مدى السنوات القليلة التَّالية، حظيت بامتياز المشاركة في تعليم أتباع المسيح في غزة. لقد جسدوا الثقة بالله في وادي ظل الموت.

تحولت القيود التي فرضتها إسرائيل على غزة إلى حصار؛ وعانت غزة من حصار بري وجوي وبحري صارم. استمر الحصارُ لمدة 16 عامًا. بدأ في عام 2007 وكان قائمًا في 6 أكتوبر 2023. خلال فترة الحصار، عانت غزة من نقصٍ خطيرٍ في الكهرباء مما تسبب في انقطاع التيار لمدة 10-12 ساعة يوميًا. لم يتمكن العديد من طلابي من مواصلة جلسة الصف بسبب انقطاع الكهرباء. في بعض الأحيان كان لديهم إمكانية الوصول إلى مولد كهربائي مما جعل من الممكن أن يكون لدينا حصة تعليمية دون توقف. على مدى سنوات عديدة، عانت غزة من نقص المياه والغذاء ونقص الأدوية وتلوث الصرف الصحي. عانت غزة من أزمة إنسانية. سهّلت هذه الظروف المزيد من الحروب. شهدت غزة أربع حروب قبل عام 2023. كانت الحروب في 2008، 2012، 2014، 2021. هزَّت كل حرب قلوبنا ونحن نشاهد الأطفال الصغار يُقتَلون وتدمير العديد من الأبرياء. خلال هذه الحروب، كتبت رسالة مفتوحة إلى إخوتي وأخواتي اليهود المؤمنين بالمسيح. [10] تلت هذه الرسالة عدة مقالات نُشرت على موقع كوم أند سي. [11] كما شاركت في كتابة وثيقة كايروس الأولى عام 2009 ثم ملك السلام وأتباعه الصغار عام 2012. [12]

كانت هذه الظروف هي الخلفية للجرائم المروعة التي حدثت في 7 أكتوبر 2023. اختارت حماس طريق "العين بالعين". قتلوا وخطفوا مدنيين إسرائيليين أبرياء. لا يمكن تبرير أفعالهم والشر الذي اقترفوه لا باسم الله ولا باسم الوطن. لقد انكسر قلبي على زملائي المواطنين الإسرائيليين. ظننتُ أن هذا هو أسوأ شر وأسوأ نوع من الخطايا يمكن أن أراه حتى بدأ رد إسرائيل على جرائم حماس. كانت الحكومة الإسرائيلية مصممة على الانتقام وقتلت عشرات الآلاف من الأبرياء. ووقعت إسرائيل في خطية الانتقام والكبرياء والقسوة فدمرت جميع البنى التحتية في غزة بدون رحمة. صدم هذا القتل الجماعي العالم وكشّرت الكراهية عن أنيابها لتفتك وتفني كل أنواع الحياة. وبحث الناس عن المفردات التي قد تصف هذا الشر الكبير فاختاروا إبادة وتطهير عرقي وغيرها من المفردات والغريب أنهم لم يختاروا كلمة خطية، ربما لأنها أصبحت متداولة أو ربما لأننا لم نعد نشعر بشناعتها ورهبتها وقذارتها وقرفها. والغريب أنهم لم يربطوا مفرداتهم بكلمة خطية ولم يقولوا خطية الإبادة أو خطية التطهير العرقي أو غير ذلك. قد يشعر البعض أن هذا الفرق بسيط إلا أن التشخيص الصحيح أساس العلاج الصحيح الذي يرتبط بصليب ربنا يسوع المسيح. ربما تحاشينا استخدام كلمة خطية لأننا نريد تصنيف البشر على سُلم الخطايا ونعيد تعريف المعايير قانونيا أو اجتماعيا أو سياسيا دون ربط مباشر مع معايير الله ومفرداته. مهما كان موقفنا علينا أن ننتبه أن الخطية أسوأ من الإبادة والتطهير العرقي وأشمل وأكثر وصفا للدمار الذي يصنعه الإنسان. فهي لا تنحصر بوصف شر الإنسان ضد الإنسان بل أيضا ضد الله. وهي لا تصف شراً مؤقتا بل شراً يدوم إلى الأبد إلا إذا أوقفه الله. والخطية هي التي قادت الله إلى الصليب ليزيل سطوتها بموته. وبدون المسيح لن نستطيع أن نغير حال بلادنا الذي سيطرت عليه الخطية.

مما لا شك فيه أن الحروب جرّدت أممنا من إنسانيتها، ونشرت الكراهية باسم العدالة السياسية. لقد تم التنازل عن المعايير الأخلاقية للأمم؛ انتُهِكَت حقوق الإنسان؛ وأصبحت جرائم الحرب شائعة. وعانت فلسطين التاريخية من المشروع الصهيوني وربما أقول من خطية العنصرية والكراهية والتطرف الديني المسيحي والإسلامي واليهودي. ومع ذلك، نحن مدعوون لنكون نورًا وملحًا في خضم الحروب. كأتباع للمسيح، ما مسؤوليتنا خلال هذه الظروف والحروب؟

 

الإيمانُ المسيحيُ

في ضوء ما سبق، من الضروري أن نقدم فكرنا المسيحي وإيماننا وسط العاصفة السّياسية والزلزال الأخلاقي الذي لا نزال نعاني منه.

أولاً، يجب تشخيص واقعنا من منظور الخطية. [13] فلقد دخلت الخطية إلى أنظمتنا السياسية والاجتماعية وسيطرت على قلوب القادة الذين يرفضون المحبة البيبلية ويختارون طريق الكراهية والعنصرية والتطرف الديني من خلال الدولة الدينية التي ترفض المسيح الإله المتُأنس والمُخلِّص. وتتجسد الخطية السياسية في الظلم السياسي والاستبداد الدكتاتوري وسفك الدماء والعنف والاعتماد الكامل على الجيش. ففي هذا المنظور، السيف، وليس الصليب، هو طريق السلام. وتظهر هذه الخطايا السياسية في حياة آخاب وإيزابل (1 ملوك 21) وفي نظام هيرودس الذي قتل الأطفال (متى 2: 16-18) وفي حياة الولاء للنظام السياسي بدون الله (دانيال 3، 6) كما حصل مع نبوخذنصر وداريوس، وفي الأنظمة السياسية التي نشروها. ولا يمكن علاج الخطية السياسية دون صليب المسيح وتحريره وتعاليمه ومحبته. فقد نستبدل نظاما سياسيا بآخر أما علاج الكبرياء والفساد السياسي والاستبداد وغيره من الخطايا السياسية فيجب أن يكون بسبب نعمة الله المُخلّصة التي تنبع من صليب وقيامة ربنا يسوع المسيح. والشفاء من الخطايا السياسية يتطلب توبة جماعية كما حصل مع نحميا (نحميا 1: 5-7) وتفكيك كل أشكال الظلم والغفران والسعي إلى بناء حياة جديدة تتسم بالمحبة والمصالحة مع الله والناس.

ثانياً، نحن بحاجة إلى تأكيد الواجب الكتابي للحفاظ على الأرواح البشرية. فنحن لسنا مأمورين بتجنب القتل فحسب، بل يتوقع الله منا أيضًا أن نحمي الأرواح البشرية. وفي الكتاب المقدس، خافت القابلات الله أكثر من فرعون فحمين حياة الأطفال الأبرياء (خروج 1: 15-21). وسعت أم موسى وأخته للحفاظ على حياة موسى (خروج 2). وحذّر يوناثان داود لكي يحفظ حياته ويحميه من شاول، الديكتاتور الملكي (1 صموئيل 19-20). أضف إلى ذلك، أخفى عوبديا مئة نبي من إيزابيل وأخاب (1 ملوك 18: 3-4). أنقذ حياتهم منتهكًا قوانين الملك والملكة بتوفير الماء والطعام لهم. وتحدى يسوع الفريسيين مدعيًا أن إنقاذ حياة إنسان أهم من حفظ السبت (مرقس 3: 1-6). إن تجاهل إنسان يحتضر على جانب الطريق ليس خيارًا لأتباع المسيح، حتى لو كان الشخص المصاب سامريًا أو عدوًا (لوقا 10: 25-37). ولقد سعت الكنيسة لإنقاذ حياة بولس بإنزاله في سلة (أعمال 9: 23-25).

بإيجاز، جميع الجرائم ضد الحياة هي خطايا ضد الله والبشر. فيجب علينا حماية حياة كل من اليهود والفلسطينيين، محاربين ثقافة الموت ومستبدلين إياها بثقافة الحياة. علينا أن نعمل كل ما نستطيع عمله لتوفير الحاجات الضرورية من ماء ودواء وغذاء. علينا أن نحمي حياة البشر ونتحدى ثقافات الموت السياسية والدينية والاجتماعية ونستبدلها بثقافة الحياة. يمكننا تجسيد هذا المبدأ من خلال الاحتفال بحياة كل إنسان. فكل طفل فلسطيني أو يهودي هو عطية وهدية من الله.

ثالثا، خلال الحروب يجب التأكيد أن المحبة محورية. ولا يمكن تبرير التضحية بالمحبة باسم الدفاع عن النفس. فجوهر المحبة يشمل التضحية بالنفس في سبيل نشر المحبة. المحبة هي الوصية العظمى في الكتاب المقدس. لا يمكن أن نكون أتباعًا للمسيح بدون محبة. يجب أن تشمل المحبة محبة الله والقريب والعدو. من الصعب الحديث عن المحبة في موسم الحرب. هناك الكثير من الكراهية في وسائل الإعلام، وفي شوارعنا، وحتى في مراكز عبادتنا. فكراهية الجار والتصرف بأنانية متأصلان في الأيديولوجيات السياسية. أصبحت هذه الكراهية جزءًا من الأيديولوجيات الدينية. فنحن نتصارع مع الكراهية كلَّ يوم عندما نواجه نقاط التفتيش، والعنف، والقوانين التمييزية، والتطرف الديني، والإمبراطوريات القوية، والاضطهاد المنهجي. ومع ذلك، نحن مدعوون للمحبة، محبة المسلم واليهودي والدرزي. المحبة كلمة غامضة للغاية في سياق الكراهية. ماذا تعني؟ وكيف يمكننا اتباع سياسات المحبة وحضارة المحبة؟

سأتحدث عن ثلاث مجالات للمحبة: المحبة العهدية، المحبة الكريستولوجية، والمحبة الإرسالية. [14] المحبة العهدية هي النوع الوحيد من المحبة المُحتفى به في العهد القديم. يقول الكتاب المقدس: "اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ" (تثنية 6: 4-5). تمكّننا محبة الله من محبة جميع الناس. وبالتالي، فإن المحبة العهدية مهمة في بلد يتميز بطوائف وأديان ومجتمعات متنوعة تسعى إلى تدمير بعضها البعض. تقودنا المحبة العهدية إلى المحبة الكريستولوجية. المسيح هو غاية الناموس (رومية 4: 10). لا يمكنك أن تحب الله وتكره المسيح. المسيح يجسد المحبة العهدية. إن محبة المسيح لأعدائه هي واحدة من أكثر الإعلانات إثارة للدهشة في العهد الجديد. تدفعنا المحبة الكريستولوجية إلى السعي نحو محبة وخلاص المظلوم والظالم، المصلوب والصالب. فلقد قدمت محبة المسيح الخلاص للمصلوب الذي كان على يمينه وللصالبين الذين وقفوا أمامه. وتعتبر المحبة صليب المسيح وسيلة الله لخلاص البشر جميعا ولتحريرهم من الخطيئة. من خلال وحدتنا مع آلام المسيح، والأرثوباثوس (Orthopathos) أو المعاناة المتوافقة مع الحق البيبلي، يلتقي صالبو الحق بالمسيح المصلوب وبمحبته وبملكوته. وهكذا يتحول تجسيدنا للمحبة الكريستولوجية إلى لحظة ربانية تشمل استعلان ملكوت الله من خلال محبة تحرر الإنسان وتطلقه في رحلة نحو الاتحاد بالله العادل والقدوس. المسيحيون الفلسطينيون مدعوون ليس فقط لمحبة جميع الفلسطينيين ولكن أيضًا جميع اليهود. هذه المحبة تحرر بلدنا من الكراهية. أي مسيحي لا يقترب من منطقتنا بهذه المحبة سيكون جزءًا من المشكلة وليس جزءًا من الحل.

رابعا، المحبة ليست عذرًا للتخلي عن العدالة. إنها فرصة للسعي وراء العدالة بالقلب الصحيح. ولكن أي نوع من العدالة نسعى إليه؟ نحتاج إلى صفة يمكن أن تصف فهم الله للعدالة. أقترح العدالة الكريستولوجية إذ يجسّد المسيح العدالة. فالمسيح هو عدالة الله. هو العدالة المتحركة والحية القادرة أن تظهر قداسة الله ومحبته. علاوة على ذلك، قد نطلق على هذه العدالة اسم العدالة الإرسالية. هذه العدالة هي تجسيد لمحبة الله للبشرية ومحبته للحق. عندما أراد المسيح أن يلخص كل عدالة العهد القديم وقوانينه، لخّصها بالمحبة. المحبة هي الوجه الآخر للعدالة الإلهية. المحبة هي الرحم الذي ينتج العدالة. الصليب هو أفضل تجسيد ليس فقط للمحبة ولكن أيضًا للعدالة. يعالج الله الخطيئة بالمحبة التي ظهرت على الصليب. من خلال آلام المسيح، مهدت المحبة الطريق لبزوغ فجر العدالة. هذا يقودني إلى شرح مفهوم الاتحاد مع آلام المسيح أو الأرثوباثوس في المثال الشهير الذي قدمه المسيح عندما قال: إن ضربك أحدهم على خدك الأيمن، حوّل له الآخر أيضاً. بين الضربة الأولى وإمكانية الضربة الثانية، يمكن للشخص الذي يتعرض للهجوم أن يختار الانتقام أو قبول الاضطهاد باللامبالاة أو اختيار طريق الصليب. يسأل الشخص نفسه: هل أنا مستعد للمعاناة من أجل جلب ملكوت الله إلى هذا الموقف؟ بقبول الصليب، تتحول هوياتنا من ضحية إلى مُرسَل، نصبح رسلاً لملكوت المسيح. يمكن للفلسطينيين وللإسرائيليين تحويل معاناتهم إلى طاقة روحية تنتج محبة الله بنعمة الله. يمكن القيام بذلك عن طريق إضفاء الطابع الإنساني على صراعنا وعلى عدونا. بتقديم الخد الآخر، نحن لا نعلن إنسانيتنا فحسب، بل نمنح أيضاً الظالم فرصة ثانية من خلال السماح له بإعادة اكتشاف إنسانيته. إن شيطنة الناس أمر شائع في الحروب، لكننا بحاجة إلى الاستمرار في إعادة إضفاء الطابع الإنساني على الأشخاص الذين خُلِقوا على صورة الله. نحن مدعوون إلى أنسنة البشر في عالم ساد فيه التوحش. يجب أن نفعل ذلك في وسائل الإعلام واللاهوت والوعظ وجميع خطاباتنا. نحن نحتاج إلى أنسنة الفلسطيني واليهودي الإسرائيلي. يجب عدم حصر صورة الفلسطيني في صورة رجل فدائي أو صورة اليهودي في جندي أو مستوطن. يجب إبراز إنسانية الإنسان في الشعبين.

خامسا، إن تأكيد التزامنا بالمحبة والعدالة الكتابية هو الطريق الوحيد أمامنا لنصبح صانعي سلام مسيحيين. في دعوتنا كصانعي سلام، يجب أن نواجه الشر ونقاومه بالمحبة. يجب علينا أيضًا مقاومة الشر بجميع أشكاله سواء كان شخصيًا أو سياسيًا أو كنسيًا. يمكن أن يكون الشر فرديًا لكنه يمكن أن يكون منهجيًا أيضًا. يمكن أن يكون في ثقافتنا وحتى في لاهوتنا. يمكن أن يظهر الشر في الأكاذيب والدعاية، في وضع القوالب النمطية وشيطنة الأمم. يمكن للشر أن يبرر اللامبالاة وكسل المحبة وربما الانتقام والكراهية ومنع الغفران. يقول السياسيون الإسرائيليون والفلسطينيون: لن ننسى ولن نغفر أبدًا. مثل هذه التصريحات تحتجز الإنسان والشعوب في سجن الكراهية والخوف.

سادسا، هناك حاجة إلى خطوات عملية في سعينا لصنع السلام. مما لا شك فيه أننا بحاجة إلى معالجة الأزمة الإنسانية الهائلة في غزة والضفة الغربية وفي إسرائيل أيضاً، لكننا نحتاج أيضًا إلى تفكيك العديد من النظريات اللاهوتية التي تفتقر إلى الرحمة وتعزز الحروب الأخروية (الاسكاتولوجية). يجب فحص أنظمتنا اللاهوتية في ضوء الأخلاق المسيحية. فأي لاهوت يفتقر إلى المحبة لا يتوافق مع إرادة الله التي أصبحت مرئية في يسوع المسيح. اللاهوت بدون محبة أو رحمة أو عدالة هو أيديولوجية خطيرة. علاوة على ذلك، نحتاج إلى البحث عن حلول طويلة الأمد يتم فيها تقدير ومحبة الفلسطينيين واليهود على قدم المساواة. فهذه البركات غير محصورة بالمجيء الثاني بل تظهر كلما يأتي ملكوت الله كما في السماء كذلك على الأرض، على أرضنا الآن وهنا. ومفتاح مجيئها مرتبط بإكرام المسيح وتعاليمه. لهذا الكنيسة حول العالم مسؤولة أمام الله عن إكرام المسيح ورفعه في كل دائرة وضعنا الله فيها. للأسف، دافعت العديد من الكنائس عن إسرائيل بدلاً من المسيح. البعض روج للحرب بدلاً من السلام. البعض تجاهل احتياجات الكنيسة الفلسطينية وكنيسة أتباع المسيح اليهود وصبّ جُلَّ اهتمامه في دولة يهودية. ربما حان الوقت لحصول تحول كبير وجذري نسعى فيه لتكريم المسيح، وتمكين كنيسته وأتباعه، ونشر العدالة والحياة الكريمة لكل من الفلسطينيين واليهود. ولا شك، أن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل رصيدٌ عظيمٌ في تحقيق هذا الأمر. إنهم ثنائيو اللغة يتحدثون العبرية والعربية. وهم ثنائيو الثقافة. كنائسهم ومؤسساتهم رصيد عظيم لصنع السلام. يجب على الكنيسة حول العالم أن تستثمر في تعزيز عمل الله في الأرض المقدسة. لهذه الأرض دعوة فريدة في توضيح كلام المسيح؛ حجارتها تصرخ وتشهد للبشرية عن الله. ليت الرب يبني الشراكات اللازمة للدفاع عن ملكوت المسيح وتجسيد ملكوت المحبة والسلام والعدالة والمساواة.

سابعاً، يجب العودة إلى مركزية المسيح وتعاليمه في كل لاهوت نتبناه ونروجه. ويجب تأطير هذه التعاليم في واقعنا الاجتماعي والبيداغوجي والسياسي. علينا أن نطور المفردات اللاهوتية والمفاهيم الإيمانية التي تُخاطب واقعنا السياسي والاجتماعي من منظور مركزية المسيح. وعلينا أن نتحدى اللاهوت السياسي الذي يتحاشى مركزية المسيح والأديان التي تبعد عن تعاليم المحبة والرحمة. إن بلادنا تُعاني من خطايا سياسية خطيرة تفتك بحياة الإنسان لكنها تحتضن كنيسة صغيرة تقدر أن تنير درب هذه البلاد بنعمة الله. لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم قد سُرَّ أن يعطيكم الملكوت (لوقا 12: 32). ودعونا نستأسر كل فكر إلى طاعة المسيح، له المجد إلى أبد الآبدين.

 

[1] Munther Isaac, Christ in the Rubble (Grand Rapids: Eerdmans, 2025); Mitri Raheb and Graham McGeoh, eds., Theology After Gaza (Eugene: Cascade, 2025); Bruce Fisk and Ross Wagner, eds., Being Christian After the Desolation of Gaza (Eugene: Cascade, 2025).

[2] John Munayer and Samuel Munayer, eds., The Cross and the Olive Tree: Cultivating Palestinian Theology amid Gaza (Maryknoll: Orbis, 2025).

[3] Salim Munayer, Reconciling Justice: Concepts of Justice in the Multireligious Context of Palestine/Israel (Eugene: Cascade, 2024).

[4] Kairos Palestine, Kairos (Nov 14, 2026), internet: https://kairospalestine.ps/images/Kairos_2_Arabic_final.pdf; accessed on Nov 24, 2026. (Arabic Document)

[5] Judith Rood, Beauty for Ashes: Understanding the Israel-Hamas War (Bloomington: WestBow, 2024).

[7] Mitch Glasser, “October 7 – A Year Later,” internet: https://chosenpeople.com/presidents-letter/october-7-a-year-later/; accessed on Nov 25, 2025.

[8] Rashid Khalidi, The Hundred Years’ War on Palestine (Kindle; New York: Metropolitan Books, 2020), 237.

[9] Munther Isaac, Christ under the Rubble (Kindle; Grand Rapids: Eerdmans, 2025), 94.

[10] Yohanna Katanacho, “Reflecting on Gaza,” Comeandsee (Dec 29, 2008), internet: https://www.comeandsee.com/view.php?sid=954; accessed on Nov 23, 2025.

[11] See for example, Yohanna Katanacho, “A Palestinian Baptist in the Bombarded Gaza Shares His Thoughts and Prayer Requests,” Comeandsee (July 12, 2014), internet: https://www.comeandsee.com/view.php?sid=1231; accessed on Nov 23, 2025; Yohanna Katanacho, “What Do the People of Gaza Want? How Can We Respond?,” Comeandsee (July 17, 2014), internet: https://www.comeandsee.com/view.php?sid=1233; accessed on Nov 23, 2025; Yohanna Katanacho, “A Baptist Woman from Gaza Declares that God is Her Refuge (Psalm 91),” Comeandsee (July 19, 2024), internet: https://www.comeandsee.com/view.php?sid=1237; accessed on Nov 23, 2025; Yohanna Katanacho, “Mass Murder in Gaza,” Comeandsee (May 15, 2018), internet: https://www.comeandsee.com/view.php?sid=1357; accessed on Nov 23, 2025; Yohanna Katanacho, “How to Respond to the Situation in Gaza as Christians?,” Comeandsee (May 17, 2018), internet: https://www.comeandsee.com/view.php?sid=1358; accessed on Nov 23, 2025.

[12] Kairos Document: A Moment of Truth, a Word of Faith, Hope and Love from the Heart of Palestinian Suffering. KairoPalestine. Internet: https://www.kairospalestine.ps/index.php/about-kairos/kairos-palestine-document; accessed on Nov 23, 2025. See also, Yohanna Katanacho, The King of Peace and His Young Follower (Nazareth: Arab Israeli Bible Society, 2012). The book is available in Arabic only.

[13] One of the good reference about hamartiology or the doctrine of sin is Thomas McCall, Against God and Nature (Wheaton: Crossway, 2019).

 [14] Yohanna Katanacho, “Kairos and the Logic of Love,” Comeandsee (Dec 21, 2019); internet: https://www.comeandsee.com/view.php?sid=1382; accessed on Nov 23, 2025.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع