• ميلاد جديد - عصام نسيب عودة
ميلاد جديد - عصام نسيب عودة

أكتب هذه السطور ونحن على عتبة عيد الميلاد وسنة جديدة تنتظرنا.

عادة ما تتراكض الكتابات والأحاديث الجميلة، ويعم جو من الاحتفالات والتجهيزات لاستقبال هذا الموسم الجميل، نعم الجميل، بما في ذلك الترانيم والشجرة والزينة والأضواء والحفلات والأطعمة اللذيذة والعائلة والسفريات والملابس والهدايا، وفي الآونة الأخيرة انضم "ضيف جديد للائحة"، ألا وهو سوق الميلاد، ناهيك عن البرامج الميلادية في الكنيسة وخارجها، و"القداس" الذي يحشد جماهيرا غفيرة من الحجاج والمصلين في شتى أنحاء المعمورة... 

 

في هذا العام، ومع اجتياح جائحة لعينة أبواب الكرة الأرضية بأسرها، قد يختلف الأمر عن السنين السالفة، فالعالم يئن ويتمخض رازحا تحت عبء جديد لم يعهده من قبل، ويكفي أن نذكر حسم التجمعات البشرية، وبالتالي منع الكثير من "التجمهرات" الميلادية التي تنشط كثيرا في هذا الموسم، تلك المذكورة وغيرها، هذا بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية المتأزمة والآخذة في التدهور والانهيار كجبل جليدي أمام شمس النهار القوية.

 

نعم، قد يبدو المشهد محزنا وغير مألوف، وقد يأخذ العيد "حلة" جديدة لم نعهدها من قبل، متجردا من مظاهر احتفالية جمة ومقتصرا على تفاصيل قليلة تكاد لا تُذكر!

 

ويأتي السؤال: هل فقد الميلاد "رونقه"؟! هل ذابت مظاهر العيد، هل اندثرت معالمه الجميلة أم تشوهت صورته؟! وكيف سيبدو الميلاد؟ هل سيبدو بصورة "عجوز" لا حول له ولا قوة، أم سيظهر بمشهد "المتسول" أو المُقعد في زقاق قديمة، وهل سيكون كمدينة مهجورة حزينة وشقية بعد أن كانت عامرة بأهلها وناسها؟!

 

إذا كان هذا الميلاد الاتي كما ذكرنا ب"حلة جديدة" فقد ننظر إليه بحسرة وضيق، فالحلة ليست بالحقيقة "جديدة" انما بالية بل وتعيسة فنرفضها ونتحسر على الحلة الميلادية الجميلة التي اعتدنا عليها من سنة لأخرى ...


كم يذكرنا هذا المشهد بشعب اسرائيل في فترة وجوده في برية سيناء، فبالنسبة للكثير منهم كانت هذه الحقبة بمثابة "حلة جديدة غير مرغوب فيها"، متذمرين ومتحسرين على البصل والثوم والكراث في أرض مصر، ولكن ناسين العبودية التي رزحوا تحت عبئها لسنين طويلة، ومتجاهلين الخلاص والنجاة من العبودية، الأمر الذي أغضب الله كثيرا. 

 

في اعتقادي أن هذا الميلاد لهو ميلاد خاص جدا، لا بل مشابه للظروف التي واكبت ميلاد رب المجد يسوع، فمن كثرة الاحتفالات التي اعتدنا عليها، أو اعتاد عليها العالم المسيحي، أخذ هذا العيد حلة جميلة جدا، وبصدق، ولكن لم تكن الصورة الحقيقية كذلك بزمن ميلاد المسيح.

 

لنرجع بذاكرتنا إلى فترة ما قبيل ميلاد المسيح، لرأينا صورة صعبة تكاد تخلو من كل أمل أو فرح أو رجاء، فالشعب اليهودي، الذي عرف الله، كان رازحا تحت وطأة الحكم الروماني القاسي، وكانوا ينتظرون "المخلص" لينقذهم من هذا العبء والضيق، فنرى ذلك في الكثير من الأحداث التي سبقت ميلاد المسيح وكذلك بعد ميلاده، بدءا بمريم بعد بشارة الملاك لها، نراها تهتف: "عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة"، والرعاة فرحوا جدا ببشارة ميلاد المخلص، المجوس أتوا من بعيد لينظروا المولود ملك اليهود المدبر والمخلص، وكذلك زكريا بعد ولادة يوحنا يقول: "مبارك الرب اله اسرائيل لأنه افتقد وصنع فداء لشعبه، واقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه"، وحنة هتفت "وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في اورشليم"، سمعان الشيخ كذلك تنفس الصعداء قائلا: "لان عيني قد ابصرتا خلاصك  الذي اعددته قدام وجه جميع الشعوب". نرى كذلك التلاميذ يفكرون في "من سيكون الأعظم" في الملكوت الأرضي، وها ابنا زبدي يشتهيان الجلوس عن يمين الرب ويساره في مجده الأرضي، وعند دخول الرب إلى أورشليم هتف الشعب: "أوصنا" أي خلصنا.

 

ومما زاد الطين بلة، وبالإضافة إلى الظلم الذي عاناه الشعب من الحكم الروماني المجحف، فوق كل ذلك "يهجم" هيرودس بشكل وحشي لا يعرف الرحمة ليقتل كل طفل من ابن سنتين فما دون، ومتى؟ في فترة الميلاد، فبدلا من الاحتفالات والأفراح بميلاد المخلص ابن الله الحي أصبحت هذه الحقبة ترتدي حلة سوداء وصراخ الأمهات، بما فيهم راحيل، صعد أبواب السماء ومزق كل فرح أو بهجة أيا كانت!

 

ومتى كل ذلك؟ في الميلاد. أين الخلاص؟ يبدو للوهلة الأولى أن الصورة عكسية للغاية.

 

ربما علينا أن نغير وجهة نظرنا تجاه معنى الفرح والخلاص الحقيقي في هذا الميلاد بالذات، حيث يبدو بوشاح أسود، بالضبط كما كان في فترة ميلاد المسيح، وربما علينا أن نبدأ باحتفالات من نوع آخر، فيها نصرخ، في هذا الميلاد بالذات، أن يخلص رب المجد الكثيرين لينقذهم من الهلاك، وليس فقط هلاك الجسد إنما بالذات هلاك الروح، ربما علينا أن ننادي أكثر بالخلاص ونبكي لأجل النفوس التي ترزح تحت عبء الخطية المميت، منشغلة بأمور الحياة وملذاتها وشهواتها، متغاضية عن النظر إلى "طفل المغارة" وإهدائه قلبها وحياتها.

 

ربما علينا أن نصرخ للرب لأجل المآسي التي تعاني منها البشرية، وكونها بعيدة عن خلاص المسيح، ونطالب الرب بإرجاع خليقته إلى الحظيرة، إلى بيتها الحقيقي، كون البشر جميعا خليقة الله، واستردادها من قبضة إبليس اللعينة إلى حرية مجد أولاد الله، وأن نطالب الله أن يعطينا استراتيجيات جديدة لمد يد العون والبشارة والكرازة بخلاصه الذي أعده لكل البشر، عندها سيلبس الميلاد حلة جديدة حقيقية، ليست حلة الاحتفالات الأرضية فقط إنما حلة الخلاص لكل البشر ... هو هو الميلاد الحقيقي.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع